لم يكن الشاعر الراحل الكبير عبد الله الفيصل يعرف أن كلمات قصيدته الرقيقة (ثورة الشك) ستنطبق على أحوال مصر بعد أكثر من نصف قرن من غناء أم كلثوم لها، فحالنا الآن يصفه البيت الأول في تلك القصيدة الشاعرية: أكاد أشك في نفسي لأني أكاد أشك فيك وأنت مني ربما تكون ثورة 25 يناير قد حصلت على لقب ثورة الشك بامتياز ! فبعد تخلي الرئيس السابق حسني مبارك عن منصبه وتولي المجلس الأعلى للقوات المسلحة مقاليد الحكم لفترة انتقالية؛ خرجت إلى النور أو أعلنت جمعيات وائتلافات وتحالفات، مع ما كان موجودا أصلا من أحزاب ضعيفة وقوية، معروفة ومجهولة، أسست منذ زمن بعيد أو ما زالت تحت التأسيس، وفي ذات الوقت أحس جزء لا بأس به من شرائح المتعلمين وجزء أكبر من طلبة الجامعات؛ بأن أصواتهم يجب أن تعلو، وأنها ذات تأثير على قرارات الدولة، وخرج السلفيون بلحاهم الطويلة وأفكارهم التي تناقض ما تعارف عليه المجتمع عبر أكثر من نصف قرن، وبرز على الساحة السياسية المتطرفون مسلمون ومسيحيون، يطعّمون أفكار من يستمع إليهم هنا وهناك، واستنفرت التجمعات العمالية والمهنية داخل النقابات وخارجها على أمل البحث عن دور، ومع انهيار جهاز الشرطة وتداعيات هذا الانهيار المأساوي في وظائفه، لا زالت الأغلبية الصامتة على صمتها... جمع الشك بين هذه الأطراف كلها على اختلاف انتماءاتهم السياسية والدينية ومستوياتهم الاقتصادية والاجتماعية ! الكل يشك في الكل.. الجميع يشكك في نوايا الجميع. فبعد تخلي الرئيس عن منصبه؛ أجبر شك الشعب في ولاء رئيس الوزراء السابق الفريق شفيق على الاستقالة، وحتى الآن يشكك الكثيرون في أداء وزراء حكومة الدكتور شرف، ويشكك في قدرتهم على تخطي العقبات والخروج من عنق الزجاجة جماهير الشعب تشك في المحافظين وأعضاء المجالس المحلية ورؤساء الأحياء ومهندسي الحي وموظفيه، فهؤلاء جميعا جاء كبارهم إلى مناصبهم إما بالتعيين أو عبر انتخابات ثبت تزوير نتائجها لمصلحة الحزب الراحل، ولا زالوا جميعهم يمارسون ذات السلطات ونفس الأدوار التي كانوا يمارسونها قبل الثورة، وهذا هو ما ضاعف الشك فيهم، إذ إنهم ولابد أن يكونوا باقين على العهد محافظين عليه. وطلاب الجامعات يشكون في ولاء أساتذتهم وعمداء كلياتهم ورؤساء جامعاتهم، وهل لا زال هؤلاء القادة على ولائهم للنظام السابق الذي عينهم في مناصبهم؛ أم إن الولاء قد تغير ؟ الكثير من الناس يملأ نفوسهم الشك من جدية التحقيقات والاحتجازات لرموز النظام السابق، هل هم بالفعل محتجزون في الليمان ؟ ولماذا لا يسجنوا في سجن عادي كسجن الواحات أو سجن الفيوم أو القطّا ؟ لماذا سجن مزرعة طرة بالذات ؟ ألكي يصل التهكم والشك إلى اعتباره (بورتو طرة) حيث يجتمع علية القوم منعزلين عمن عداهم من المساجين، يلتقون ويتسامرون ويديرون أعمالهم كأنهم ليسوا محبوسين ؟ ألم نسمع من يشكك في وجود رموز النظام في البلاد أصلا، والعديد يشكون في وجودهم خارج البلاد منذ فترة ؟ ألا تدعو هذه الظروف المريبة إلى تولّد الشك في نفوس الناس، وتقضي على مصداقية عملية البحث عن العدالة برمتها ؟ جماهير الشعب تشك في نوايا جهاز الشرطة، وهل سيعودون لأداء مهامهم في حماية أمن المجتمع باعتبارهم من الشعب، أم تعود ريمة إلى عادتها القديمة؛ فيتعالى رجال الشرطة ضباطا وأمناء ومساعدين وجنود على الناس، ويتعاملون معهم بمنطقهم القديم الملعون ؟ ونحن نعاين يوميا ..ونسمع من الحكايات ما يؤكد لنا شكوكنا أن هناك من يسعى لاستمرار حالة الخواء الأمني في جميع أنحاء بر مصر، فمثلا.. المسافر من القاهرة إلى الإسكندرية لا يرى أيا من أطقم الجباية (المرور) التي كانت تحكم الطريق قبل الثورة؛ ضباط وأمناء وجنود، فأصبح هذا الطريق وجميع طرق السفر الصحراوية والزراعية والمناطق العشوائية؛ تبعا لكثير من الروايات وشهود العيان؛ نهبا للبلطجية والخطرين، والسائقون المتهورون يعيثون في الطرق فسادا وترويعا، فما الذي يتبادر إلى ذهن المواطن إلا الشك في أن هناك من يسعى إلى ترسيخ هذه الحال غير المستقرة ؟ وأظنك عزيزي القارئ تدرك مقدار الشك الذي يحتل نفس كل منا بدرجات متفاوتة كلما شاهد بنفسه تراخي رجال الشرطة عن أداء مهامهم في الشوارع وفي أقسام الشرطة وفي الأحياء؛ العشوائية منها والمتوسطة والراقية، والشك فيهم دائما ما يكون مصحوبا بالتساؤل الكبير .. مَن وراء هذه الحالة من التراخي والتباطؤ في عودة الأمن إلى الشارع المصري ؟ ألا يساورنا جميعا الشك في نواياه أيا كان ؟ هذا على مستوى الشك الجماهيري، أما على المستوى السياسي؛ فحدّث ولا حرج عن شك كل الكيانات والأشخاص في كل الكيانات والأشخاص ! فالإخوان يشكون في الوفديين والسلفيين والعلمانيين، ويشككون في انتماء بعض كبار رموزهم لجماعتهم، والتجمع واليساريون يشككون في نوايا الإسلاميين، والسلفيون مشكوك في توقيت وطريقة ظهورهم في الحياة السياسية، ويشككون في وطنية وعقيدة كل من يقترب من مادة الدستور الثانية، والأقباط المسيحيون حائرون يشكون في إخوانهم الأقباط المسلمين؛ ومن سيُحِق لهم حقوقهم في المواطنة الكاملة ؟ وهل سيقر قانون دور العبادة حقهم في بناء كنائسهم بالعدد الذي يريدون أم سيقيد هذا الحق ؟ والأحزاب والإخوان المسلمون يتبادلون الاتهامات بركوب الثورة والقفز على مكتسباتها، والادعاء الكاذب بقيادتها، ويتضاعف الشك في نوايا الإخوان - الخبيئة الخبيثة - بمحاولة السيطرة على البرلمان القادم مع التزايد المطرد في النسبة التي ينوون الحصول عليها من المقاعد، ونيتهم عدم تقديم مرشح للرئاسة، بينما ينشق الدكتور أبو الفتوح عن الإخوان ويرشح نفسه .. والشك فيما تدل عليه تعبيرات الدولة الدينية والدولة المدنية والدولة المدنية ذات المرجعية الدينية وفهم كل كيان لهذه المدلولات، والمترشحون للرئاسة يشكك بعضهم في نوايا بعض، ويسفهون عبر طرائق مختلفة ومتنوعة برامج بعض وخطط بعض. والمرأة تضاعفت شكوكها بعد الثورة؛ إن كانت المكاسب التي حصلت عليها ستستقطع منهن أم ستبقى وتزدهر بعد الثورة، والعمال والفلاحون يشكون في نية كُتّاب الدستور القادم إلغاء نسبتهم المقررة في البرلمان وبعد أكثر من خمسة وخمسين عاما من الحياة في ظل الحكم الفردي المتسلط؛ اكتشف معظم أبناء جيلي أننا كنا مضللين ومخدوعين ومغرر بنا من الإعلام الحكومي بأبواقه المختلفة؛ مقروء ومسموع ومرئي، وإلا فلماذا سكتنا وتعامينا عن كل هذا الفساد؟ ألم تخنقنا رائحته ؟ ألم تطلنا آثاره ؟ ألم نعاني من انتشاره ؟ أليس من الطبيعي أن نشك في أنفسنا وفي قدرتنا على تقييم الأمور؛ حين نجد أنفسنا تلاميذ في مدرسة الثورة وأساتذتنا فيها أبناؤنا الذين كانوا أقدر منا على مواجهة الواقع وتغييره ؟ أما عن حل هذه المشكلة؛ فهو يكمن في اتباعنا قول الله تعالى: (ولا تيأسوا من رَوح الله إنه لا ييأس من رَوح الله إلا القوم الكافرون) – يوسف 87، يجب ألا نشك أن الله تعالى ساند وساعد وأيّد هذه الثورة، ولا نشك لحظة واحدة أنها هي الصواب بعينه، ولا نشك أن استمرار الأوضاع على ما كانت عليه قبل الثورة كان سيوردنا موارد الهلاك السريع، ولم يكن أمامنا إلا احتمال واحد هو الفشل والضياع.. أما الآن وبعد نجاح الثورة إذ كانت عين الله تحرسها؛ أصبح هناك احتمالان لنتائجها؛ أسوأهما أن تستمر الأحوال الداعية والمحفزة على الشك؛ فتصبح الثورة ثورة الشك بامتياز ويعلم الله إلى أي مصير تؤول ونؤول، والاحتمال الآخر هو أن تصبح ثورة على الشك الذي زرعه فينا وفي قيمنا من لا يخشون الله، بألا نيأس من رَوح الله، ونتوكل عليه ونغير ما بأنفسنا فيغير الله ما بنا، والأوضاع التي حلت بمجتمعنا وحياتنا... واسلمي يا مصر