«محمد من إسكندرية.. أنا كبرت لقيته في الشارع.. عمرنا ما عرفنا له بيت ولا أهل كان بيشتغل في ورشة نجارة كبيرة.. وبينام في الورشة». لم تستطع «إلهام» بهذه الكلمات أن تزيل الغموض المحيط بشخصية «عم محمد» هي.. لم تكن مهتمة لا بأن تشبع فضولي ولا بأن تعتبره موضوعاً يستحق الفضول أصلاً. عرفت هذا من تكرار كلمة «عادي يعني» كإجابة عن كل سؤال أسأله لها. لم أتمكن أبداً أن أوجه له سؤالاً مباشراً. بعد أن سألته أول مرة بتلقائية «مالكش حد ممكن يجيبك المستشفي؟!». فأجاب: «إزاي بقي.. ليَّ ربنا». طريقته في الإجابة أخرستني. كانت نظرته وابتسامته وشيء ما لا أعرفه في روحه يكسبه قوة تشعرني بالضعف أمامه. «من فترة سمعنا أنه أتجوز، هي جوازه غريبة شوية، واحدة ست عميا ووحيدة وجوزوها له عشان يخدمها هو طول عمره خدوم وجدع، بيخدم الناس كلها الصغير والكبير من غير حاجة خالص». «يعني إيه يا إلهام من غير حاجة خالص». «يعني من غير فلوس.. محمد كريم.. واللي في إيده مش ليه». وبعدين راحت فين مراته؟. طلقها ورجع الشارع لما بدأت صحته تتعب وأبويا أدي له أوضة فوق السطح في بيتنا. وأبوكي ما يعرفش أهله يا إلهام؟ إنتي ليه يا أبلة شاغلة نفسك بحكاية أهله دي؟! إحنا مالنا ومال أهله. تذكرت السؤال والإجابة عندما تلقيت مكالمة من إلهام تبلغني «أن محمد تعيشي إنتي» عاودت الاتصال بها. «عملتي إيه يا إلهام؟ أنا خارج القاهرة مش قادرة أعملك حاجة». أنا في قصر العيني والناس بيساعدوني عشان أخلص الورق. قلت لهم إني بنت أخته.. عايزين قريب يكون درجة أولي.. عشان شهادة الوفاة. فين أبوكي يا إلهام؟ أبويا بيجيب الكفن.. وأمي وأهل الشارع هناك عند المشرحة.. سلموني حاجاته مش عارفة أديها لمين؟.. ما حضرتك عارفة ما نعرفلوش أهل. مش مهم حاجاته يا إلهام.. المهم هتدفنوه فين؟ لأ ما تحمليش هم الدفنة.. التُرب كتير بس إحنا أولي بيه أكيد أبويا هيفتح. المهم حاجاته أعمل فيها إيه؟! إيه هي حاجاته يا إلهام؟! سخان شاي.. وجلابيتين.. وشبشب. والله مش عارفة يا إلهام أسألي أمك. كنت أتأمل البحر الواسع وأتذكر ضحكة عم محمد ونظرته الساخرة الحنونة. ثم جملته التي اعتاد أن يرد بها علي أسئلة إلهام «والنبي بس خليكي إنت نايمة». محمد.. القادم من الإسكندرية.. لم يظهر له أي قريب درجة أولي لكن عندما مات شيعه أهل الشارع جميعاً. وترك سخان شاي وشبشب وجلابيتين.