لو عاش دكتور يحيي المشد حتي اليوم ورأي الحال الذي صار عليه قسم الهندسة النووية بجامعة الإسكندرية - الذي شارك في تأسيسه - لمات كمداً قبل أن يموت اغتيالاً علي يد إسرائيل. فنحن في مصر أفضل من يتحدث عن أشياء لا وجود لها إلا في الأوراق الرسمية ونتباهي بأننا بنينا ألف مصنع والبطالة تملأ الشوارع.. وأننا أنشأنا مليون مدرسة وليس لدينا تعليم.. وأننا أدخلنا مياه الشرب لآلاف القري الفقيرة والمياه ملوثة.. وأننا افتتحنا أول قسم للهندسة النووية في الشرق الأوسط، وهو عبارة عن حجرة وعدة كراس متهالكة وطلبة فاشلين بالفطرة.. وأننا بصدد إنشاء محطة للطاقة النووية لتعويض نقص الطاقة ثم نستغرق ألف عام لتحديد موقعها رغم أننا نحتاج إلي ما لا يقل عن 50 محطة نووية لتعويض نقص الطاقة في مصر. فقسم الهندسة النووية بجامعة الإسكندرية «القسم الوحيد في الجامعات المصرية» عندما أسسه دكتور عصمت زين الدين عام 1963 كأول قسم من نوعه في الشرق الأوسط كان يهدف به إلا تكوين كوادر قادرة علي بناء مفاعلات للطاقة النووية بالوصول إلي تكنولوجيا السلاح النووي لمواجهة السلاح النووي الإسرائيلي.. ولهذا فكان يختار له طلبة يتمتعون بقدرات غير عادية، وعندما اختار له «أحد تلاميذه» دكتور يحيي المشد - أستاذ الطاقة الذرية - وعينه أستاذاً مساعداً بالقسم عام 1967، حيث لم يكن في مصر وقتها أساتذة في الهندسة النووية كان يهدف إلي استمرار صمود القسم أمام محاولات تخريبه نيلاً من زين الدين - مؤسس القسم - لخروجه بالقسم عن سيطرة الجهات الأمنية وخروج حركات النضال الطلابية ضد النظام من داخل القسم، فتم اعتقال زين الدين ونفيه خارج البلاد عام 1968 وجرت منذ ذلك الحين خطط منهجية لتخريب القسم، أرجعها زين الدين إلي التزام مصر بتجميد أي مشروعات نووية مصرية تعتبرها إسرائيل خطراً عليها - وفق بنود اتفاقية كامب ديفيد - وعلي هذا استمرت المحاولات الممنهجة لتخريب القسم - الوحيد المتخصص في الطاقة النووية في الجامعات المصرية وبعد أن كان أول قسم للهندسة النووية في الشرق الأوسط، صار اليوم عبارة عن حجرة متواضعة تملأها عدة كراس متهالكة ونحو 20 طالباً «هم طلبة القسم» يتم اختيارهم من بين أسوأ العناصر الطلابية وبعد أن كان القسم مقصوراً علي المتفوقين صار يدخله طلبة «طالعين بمواد من إعداد هندسة» أمام هروب الطلبة المتفوقين من الالتحاق بالقسم الذي لا توجد له فرص عمل في مصر ولا يجد خريج القسم أمامه سوي العمل في مجال الكهرباء أو تطبيقات النظائر المشعة التي يعمل بها خريجو كلية العلوم بعد أن تم تفريغ القسم من المعامل ومن الكوادر الطلابية والتعليمية، وصار أكرم له دفنه، بعد أن بات أشبه بمتحف للآثار الغارقة ومجرد شاهد علي تاريخ عظيم مندثر. قال لنا طلبة بالقسم: «قبل ما ندخل القسم قالوا لنا إنه منظر ع الفاضي ومفيهوش أجهزة وملهوش شغل، لكننا كنا حابين نشتغل في الطاقة النووية، ورغم كل اللي سمعناه لما دخلنا القسم حسينا بصدمة، لقينا القسم عبارة عن أوضة ومكتبة وبيعتمد علي الدراسات النظرية القديمة، ومفيهوش معامل ولا تدريب عملي ولا أجهزة ولا محاكاة لأي مفاعل، ده حتي مفيش كتب والمادة العلمية عندنا ناقصة وبنعتمد علي مراجع غير كافية، أما الدكاتره فغالباً بيتعلموا فينا لأن كل الدكاتره الكويسين سافروا من مصر». ورأي أحدهم أنها خطة مقصودة لتخريب القسم مرجعاً ذلك - وفق تصوراته الصغيرة - بقوله:« الظاهر خايفين يطلعوا مننا عباقرة يدمروا العالم». أما دكتور عصمت زين الدين، فقال لنا إنه يتردد عليه بين الحين والآخر أساتذة في الطاقة النووية من خريجي القسم الذين صاروا يحتلون مناصب رفيعة في الجامعات الأمريكية، وأنهم يشتكون من تخلف مستوي القسم والطلبة، وتخلف موضوعات البحث العلمي في مصر التي تعتمد أبحاثها علي الانشطار النووي الذي توقفت فيه الأبحاث في الدول المتقدمة وصارت تجري علي الاندماج النووي، بينما في مصر مازالوا يعملون علي مفاعلات انشطارية قديمة لم يعد يعمل بها في الخارج. إيمان الأشرافوقال زين الدين: إن الأساتذة المصريين يرفضون منح خريجي القسم منحاً لإجراء الأبحاث في الخارج لضعف مستواهم ويعتمدون علي خريجي الجامعات الأمريكية بدلاً من المصريين. علي الرغم من الإعلان بين الحين والآخر عن اتجاه جامعة الإسكندرية إلي تطوير القسم - منذ قديم الأزل - إلا أن شيئاً من هذا لم يحدث. فالأمر أكبر من قرار قد يصدر عن جامعة الإسكندرية أو وزارة التعليم العالي، وأكثر تعقيداً من القدرات المحدودة للغاية لعميد كلية الهندسة عادل الكردي الذي تولي موقعه خلفاً لشقيقه عصام الكردي في إقطاعية كلية الهندسة بالإسكندرية التي اختصرت كفاءاتها فيما يبدو علي عائلة الكردي. فالقسم قد ينصلح حاله، وقد تنبثق له أحدث الأجهزة من عدم، وقد تستقر مصر علي بناء مفاعلها النووي في الضبعة بدلاً من إنشاء مشروع سياحي في ذات الموقع غير أن كل هذا يتوقف علي إجابة سؤال: «هل لدي مصر رغبة حقيقية في تطوير برنامجها النووي؟».