كيف نقنع نظام الرئيس حسني مبارك بأن سيادته لم يولد ولم تكتحل عيوننا برؤيته «أول امبارح» فقط وإنما عشرتنا معه طالت واستطالت وامتدت حتي الآن نحو ثلاثة عقود من الزمن استهلكت عمر جيل كامل علي الأقل من سكان هذا البلد؟! أسأل ولا إجابة عندي، بل أنا يائس تمامًا ولا أري في الأفق أي احتمال أن يفهم سعادته ويستوعب حقيقة أنه ليس صغيرًا ولا مستجدًا علي الحكم والتحكم فينا وفي أهالينا، وأن أغلب المآسي والكوارث السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي نعيش تحت وطأتها حاليًا هي من إنتاجه ومن صنع يديه الكريمتين، وهذا هو سر أن منظر عظمته بيبقي غريب جدا ويفطس من الضحك عندما يخرج علينا وبراءة الأطفال في عينيه في كل مصيبة سوداء فيحدثنا عنها حديث الآتي للتو من كوكب زحل، وقد يزيد ويغرف من بحر كرمه الواسع ويعطينا محاضرات ودروسًا قيّمة في هذه المصيبة وكأنه ليس مسئولا عنها ولم يتشرف بمعرفتها إلا دلوقتي حالا !! هذا الاستعباط التاريخي المحلق في سماوات الخرافة الرحبة له نماذج وأمثلة لاتكاد تقع تحت حصر، لعل أشهرها وأظرفها ذاك الرقص والغناء اليومي للفقر والفقراء عموما والقري الفقرية الألف خصوصا التي يبدو والله أعلم أنها هبطت علي دماغ البلد فجأة السنة اللي فاتت بسبب الانفجار الغامض الذي وقع في التخوم البعيدة لمجموعتنا الشمسية مؤخرا، ومن ثم فلا علاقة شريفة لهذه «الفقريات» كلها بتراكم آثار ونتائج سياسات النهب المنظم ودعم وتشجيع حرامية الغسيل علي قيادة خطط تنمية البؤس والتأخر والعدم. ومع ذلك فالفقر والكشوفات «الفقرية» الناجحة التي يحققها الأستاذ النجل يوميا في ربوع الوطن ليست هي المناسبة ولا هي موضوع هذه السطور، لكنني أكتب الآن وأنا أكاد أضيع وأبدد ما تبقي لي من نعمة العقل في تأمل أحدث تجليات وتطبيقات منهج الاستعباط والاستهبال المتمثلة في ردود أفعال الست الحكومة والنظام الذي خلقها من العدم تجاه كارثتي السيول وتفاقم التوتر والاحتقان الطائفيين إلي حد القتل علي الهوية كما جري ليلة عيد الميلاد المجيد في مدينة نجع حمادي، ففي الكارثة الأولي التي خلفت عشرات آلاف المواطنين المشردين فضلا عن خسائر مادية فادحة، بدت الست المذكورة وكأنها تسمع لأول مرة في حياتها كلمتي «سيول» و«مخرات»، بدليل أنها شخصيا قامت ببناء عشرات المنشآت الحيوية بمئات ملايين الجنيهات في مجاري أو مصبات تلك المخرات التي تتدفق فيها عادة مياه هذا الشيء العجيب الغريب الذي يدعي «سيولا» والذي هو بدوره ينجم عن شيء أغرب وأشد عحبا يسمي «أمطارا» تهطل وترخ من قديم الأزل وسوف تبقي كذلك إلي الأبد!! أما كارثة وصولنا بالسلامة إلي حضيض القتل علي الهوية في نجع حمادي، فإن الحكومة وكبارها جميعا قفزوا بمناسبتها إلي مابعد حدود الأسطورة في الاستهبال والاستعباط، إذ أصروا وحلفوا برحمة أم جدودهم مؤكدين أنها مجرد حادث جنائي عادي جدا قوي خالص ومنزه تماما عن أي دوافع طائفية علي أساس أن الثلاثي الإجرامي الذي نفذ الجريمة (الكموني وصاحبيه) قام بهذه الفعلة بدافع من هواية صيد المواطنين المصريين الأقباط !! غير أن الأمانة تقتضي أن نشهد شهادة حق بحق الرئيس مبارك ونسجل له إقدامه علي مخالفة ومناقضة كبار المسئولين في حكومة سيادته علنًا، عندما أقر ضمنًا في الخطاب الذي ألقاه أول من أمس في عيد العلم بوجود «نوازع طائفية مقيتة تهدد وحدة مجتمعنا وتماسك أبنائه»، داعيا في نفس الوقت «عقلاء الشعب ودعاته ومفكريه ومثقفيه وإعلامييه (إلي) محاصرة الفتنة والجهل والتعصب الأعمي». و.. هنا لابد أن نسأل الرئيس سؤالا ربما فيه قدر من الغتاتة لكن هذا هو حال الدنيا.. مَنْ ياتري الذي غيّب عقلاء الشعب والمثقفين والمفكرين المحترمين والدعاة المستنيرين المتفقهين والإعلاميين المؤهلين واستحضر بدلاً منهم قطعان المنافقين والجهلة وفرق الإعلام المدربة في مباحث التموين؟ ومَنْ الذي سلط هؤلاء علي عقول الناس وضمائرهم حتي استفحلت «الفتنة» وشاع «الجهل والتعصب الأعمي»؟.. الشياطين الزرق.. أليس كذلك؟!