ينبغي قبل أن أخوض في أسباب رفضي التعديلات الدستورية، أن أؤكد على حقيقتين، الأولى هي أنني لا أنطلق في هذا الموقف من كراهية للإخوان أو فزع منهم، فهم شركاء الوطن، وبذلوا من التضحيات في سبيله ما يسجله وسيسجله التاريخ بأحرف من نور، منذ اغتيال إمامهم حسن البنا، وحتى اضطهاد قادتهم بشتى الوسائل خلال عهد مبارك الاستبدادي.. أما الحقيقة الثانية، فهي أنني مثل الكثيرين أستعجل استقرار الأوضاع في مصر، ولست سعيداً بتعثر عجلة الإنتاج، وتكرار المظاهرات، كما أنني لست راضياً عن انشغال جيشنا الوفي والعظيم عن مهمته الأصلية والطبيعية، وهي الزود عن الأرض والحدود.. إذن فأنا مع الأخذ بأقصر الطرق التي تصل بالبلاد إلى بر الأمان.. حكم العسكر، كما تحلو تسميته للبعض، هو مصير لا يتمناه أي وطني مخلص لبلاده، وإذا كان اللجوء إليه ضرورة، فليكن التعاون على إنهائه هدفاً، وبأسرع ما يمكن... ها قد اتفقنا في الأساسيات.. نأتي لأسباب رفضي التعديلات، أو ما يُطلق عليه "الترقيعات" التي جرت على الدستور.. وهي في رأيي عملية "تنفس صناعي" لدستور مات أكلينيكياً، أولاً بالثورة على النظام الذي وضعه وتبناه واستخدمه كأداة لقمع شعبه، وثانياً بخروج الرئيس السابق شخصياً عليه لدى تنحيه، عندما سلم السلطة للجيش، ولم يقدم استقالته لمجلس الشعب، ليقبلها المجلس، ويتولى رئيس المجلس سدة الحكم وفقاً لهذا الدستور.. طبعاً ساهم في هذا الخروج عن النص الدستوري وضع البلاد آنذاك، ورفضنا التام لمجلس الشعب المزور، ولرئيسه المتهم هو الآخر بالفساد، وتبرير جرائم النظام بالقانون والدستور.. إذن هذه التعديلات تجري على دستور باطل، وما بني على باطل فهو باطل.. وإذا كانت الثورة قد اندلعت في مصر احتجاجاً على الدستور الذي يمنح الرئيس سلطات مطلقة، فمن باب أولى أن يعطي المجلس العسكري الحاكم لتغيير الدستور بالكامل أولوية على أي إجراء إصلاحي آخر.. هكذا يصبح للثورة معني، ولتضحيات الشهداء ثمن.. أضف إلى ذلك ما سيترتب على التصويت بنعم على هذه التعديلات.. فالجدول الزمني الذي تقترحه لا يعطي للتيارات السياسية الجديدة التي خرجت من رحم الثورة سوى بضعة أشهر قليلة لبلورة برامجها الحزبية، والتواصل من خلالها مع الناخبين.. لن يدخل الانتخابات التشريعية المقبلة سوى القوى التي تمرست على العملية الانتخابية، وهي بطبيعة الحال جماعة الإخوان، وفلول الحزب الوطني.. الإخوان يطمئنوننا بأنهم سينافسون على خمسة وثلاثين بالمائة فقط من مقاعد البرلمان، وفي رأي بعض قادتهم أربعون، وأنهم يدعمون التنوع والتعددية في الشارع السياسي.. لكن الواقع لن يساعد على تحقيق هذه الأحلام الوردية.. سيفوز الإخوان بالمقاعد المائتين التي يحلمون بها (من إجمالي عدد مقاعد البرلمان البالغ خمسمائة وثمانية عشر)، وقد يرشحون نواباً مستقلين تنطوي برامجهم على أفكار وسياسات الإخوان.. وستحصد بقية المقاعد فلول الحزب الوطني وبعض الأحزاب الكرتونية.. سيصبح البرلمان نسخة بالكربون من برلمانات مبارك، ولكن بالعكس، فالإخوان سيلعبون دور الأغلبية، يليهم الحزب الوطني، وسيختفي شباب الثورة من المشهد لبضع سنوات، وعندما تحل دورة انتخابية جديدة، سيكون زخم الثورة قد غاب، وحماس التغيير قد تلاشى، وعادت ريما لعادتها القديمة... طبعاً، أغلبية الإخوان أرحم بكثير من أغلبية الحزب الوطني.. لكن هل هذا ما يريده الشعب؟ سيجيبني متفلسف: إن الصندوق الانتخابي هو المسؤول! نعم، ولكن لا يمكن لنا أن نضع الناخب في بيئة معدومة الهواء، ثم نمده بمصدر واحد للأكسجين، ونقول له إما هذا أو الموت.. يبدو المشهد في كل الأحوال مثل قطع الدومينو، إذا تشكل البرلمان من أغلبية تيار واحد وتهميش بقية التيارات، فإن اللجنة التأسيسية التي سيفرزها لوضع الدستور الجديد ستخلو من التعددية والتنوع هي الأخرى، وستأتي للبلاد بدستور يتوافق مع أيديولوجية معينة، بدلاً من التعبير عن هوية الأمة بشكل عام.. والمشكلة أن هذا الدستور هو الذي سيرسم صورة الرئيس الجديد لمصر لمدة ثمان سنوات إذا ترشح لدورتين.. وعندها سيعود شباب الثورة إلى نفس الهامش الضيق الذي وضعهم فيه النظام السابق، وستنحشر تيارات الثورة الجديدة في خانة ضيقة للغاية، بينما ستنعم برحابة المسرح السياسي الأحزاب التي خرجت من عباءة القوى المنظمة، سابقة التجهيز، وسالفة الذكر... يريد الجيش أن يسلم المسؤولية لسلطة مدنية.. من حقه.. ولكن من حق الشعب أن يحظى بمؤسسة تشريعية سليمة البنية.. حتى لو اقتضى ذلك بقاء الجيش في الشوارع لبضعة أشهر إضافية.. فإذا لم يكن ذلك ممكناً، فلنعد إلى الاقتراح الذي طرح خلال أيام الثورة الأولى، وهو تشكيل مجلس رئاسي يضم في عضويته شخصيات مدنية وعسكرية مرموقة، يتوافق عليها الشعب.. وإذا وجد الجيش هذا الاقتراح هو الآخر صعباً، فلنبدأ بالانتخابات الرئاسية، وليترشح من يريد لمنصب الرئيس، مستنداً لإعلان دستوري مؤقت، يقر الركائز الأساسية التي ينبغي أن تدار بها الأمور في البلاد، ثم يقترع الشعب مباشرة دون وسيط لاختيار لجنة تأسيسية لوضع الدستور الجديد، تضم أساتذة قانون وفقهاء دستوريين، وإعلاميين، ورجال دين، وعلماء، من مختلف المشارب والتيارات، بحيث تفرز هذه اللجنة دستوراً يعكس صورة مصر الحقيقية.. اقتراح التصويت المباشر على لجنة الدستور، وتأجيل الانتخابات البرلمانية طرح على اللواء ممدوح شاهين عضو المجلس الأعلى للقوات المسلحة في برنامج "مصر النهارده" يوم الثلاثاء 15 مارس، فماذا قال؟ سلّم الرجل بأن معيار التأثير في الانتخابات في كل الأحوال هو المال والعلاقات الشخصية، ومن ثم فلا فائدة من مد فترة الدعاية الانتخابية.. فالنتيجة في النهاية واحدة!! يا للهول.. اعذرني يا سيادة اللواء، ما تتحدث عنه ليس بمصر الجديدة.. التي صنعت ثورة يناير بجلالة قدرها.. حديثك هذا كان يمكن أن يقبل ويهضم قبل شهرين فقط.. لكن الآن تغير الوضع، وإذا كانت هذه هي قناعة من يحمي الثورة، فقل على الثورة السلام.. مش كفاية إن حضرتك قلت في نفس البرنامج إن نسبة الأمية في مصر لا تؤهل الشعب لاختيار لجنة صياغة الدستور بالانتخاب المباشر!! لأ بقى.. الشعب الذي أطاح بديكتاتور، وحطم تابوهات نظامه الاستبدادي، واستجمع قواه على الإنترنت، وأجبر العالم على الانحناء أمام إصراره ووعيه، هذا الشعب لن يعجز عن اختيار من يكتب دستوره ويصيغ مستقبله.. الجيش يحمي الثورة التي صنعها شعب مصر، وليس شعب الجيران.. ولا يصح من الجيش الذي نحبه بمعنى الكلمة أن يشكك في وعي هذا الشعب، وقدرته على الاختيار.. بقى أن أطالب بأعلى صوتي بحل الحزب الوطني وفوراً.. لا أعلم لماذا تأجل البت في الدعاوي القضائية المرفوعة ضده إلى 29 مارس، أي بعد الانتهاء من الاستفتاء.. أرجو أن يكون ذلك مصادفة.. كما يجب وينبغي ولابد أن يصدر قانون الإحزاب حالاً وبدون تأخير.. فإذا كانت المدة المتبقية على الانتخابات البرلمانية قصيرة، فلا يصح أن يجعلها الجيش أقصر وأقصر.. سأقول لا للتعديلات البرلمانية وأنا مرتاح الضمير، وأعتقد أن أرواح شهداء الثورة ستقولها معي.. لأنهم كانوا يحلمون بمصر حرة، ديمقراطية، بدستور جديد، وبرلمان متعدد الألوان، لا يغلب عليه لون فاقع واحد، وبضعة ألوان باهتة.. أتمنى أن يراجع الموافقون على التعديلات مواقفهم، وفي النهاية كلنا أخوة، وهدفنا الأسمى هو مصلحة مصر..