لعلنا حين نصف ما أنجزه الشعب المصري في ثمانية عشر يوماً بالمعجزة نعبر عن عجزنا التام في إيجاد كلماتٍ تصف ذلك الحدث فتوفيه حقه و تترجم مشاعر الدهشة و انعدام التصديق التي سيطرت علينا جميعاً. كنت دائماً ممن يراهنون على هذا الشعب...آمنت به و انتصرت له في وجه من شوهوه و أهانوه و قزموه و بعثوا فيه و منه اليأس و على الرغم من ذلك فقد فاجأني ذلك الزلزال بسرعته و قوته و روعته و اتساعه. و لإدراكي بأننا امام ثورةٍ قد لاتتكرر كثيراً في قرون فإنني أشعر بالقلق و الخوف... للحق، فأنا على الرغم من استبشاري بحل مجالس التزوير و التلفيق التي يسيطر عليها كلوب الحزب الوطني و من تشكيل لجنة صياغة الدستور فإني لا اخفي خوفي و فزعي من محاولات ركوب الثورة و ترويضها من قبل أوكار النظام ( و ما أكثرها ) و من كل الحاقدين و من تهدد الثورة مصالحهم و هم يشكلون شبكةً ضخمة و رهيبة، معقدة و متشعبة بالإضافة إلى الإعلام العابث و المشبوه، و لا يطمئنني في ذلك سوى أنني أرى الكثيرين حولي يشاطرونني ذات المخاوف. إن أول و أخطر ما يلفت الانتباه هو تعامل الإعلام المصري بشتى أطيافه مع هذه الثورة؛ ففضلاً عن كون الكثير قد غير جلده ما بين عشيةٍ و ضحاها، فإننا نجد ذلك الإعلام ضالعاً في خلق صورةٍ و جملةٍ من المعطيات لهذه الثورة تقودها إلى التشوش ثم الفشل و الإحباط الحتمي و النهائي! بدايةً، فنحن بصدد إعلامٍ يتحدث عن الثورة بصيغة الماضي مادحاً ممجداً متغنياً مسبحاً بفضائل الثورة و الثوار تماماً كالتائبة التي تكفر عن آثامها بكثرة التسبيح و الذكر. و هو قد خلق الأسطورة و الرواية الرسمية و جعل يروج لها، و وفقاً لهذه الرواية فالثورة ثورة شباب أنصفها و انتصر لها و حسم معركتهاالجيش حتى انتهت بخلع الرئيس و رموز الفساد...سلسلة من أنصاف الحقائق. أولاً، مع اعترافي الشخصي و حماسي الشديد للدور البديع و الخلاق الذي قام به الشباب فلا يجب أن ننسى أنه إذا كان الشباب ابتكروا التكتيك الجديد موظفين الثورة التكنولوجية في خدمة الثورة السياسية، و هو جهدٌ خارقٌ و خلاق بلا أدنى شك، فإن الثورة لم تكن لتنجح لولا المدد المتدفق من جموع هذا الشعب العظيم الذي انهمر محتضناً و مذكياً هذه الثورة...لقد احاط بها و حماها بقلبه تغذيه آلامه المتراكمة و مظالمه الحارقة و الإهانات الممضة التي جرحته عبر السنين. إن الحدث و السمة الأبرز و الأهم في هذه الثورة هو إعادة ميلاد شعبٍ مصريٍ واعٍ من جديد و دخوله طرفاً في معادلات القوة عل الصعيد المصري و الإقليمي و العالمي ...هذا ما ينبغي التركيز عليه. لقد أعاد اكتشاف نفسه، بل فاجأها...لقد نهض المارد متمطياً و بهرته قوته...لقد حطم أساطير ضعفه التي أرضعه إياها النظام طوال ما يزيد على الثلاثة عقود و معها أسطورة القوة اللا متنازعة للنظام الذي لا يقهر...و ها هو يتعطش لمزيدٍ من الحرية و القوة ، و الأهم من ذلك لاسترداد حقوقه المسلوبة التي لا حصر لها . لقد أضحى الشعب المسيطر على الشارع بكثافة و حرارة أقوى الأطراف بلا منازع و جعل يكيل الضربة القاصمة تلو سابقتها للنظام و أجهزة أمنه التي تهاوت كتماثيل ضخمة من الرمال. حينذاك فقط، قبل الضربة القاضية، تدخلت القوات المسلحة كونها الهيئة الوحيدة المتبقية من هيكل الدولة المتداعي، و ذلك بعد أن منحت النظام و أجهزة الداخلية بقسوتها و بطشها العتيد ما يزيد على الأسبوعين للسيطرة على الموقف و بات جلياً عجزهم التام. ليس ذلك وحسب ، و إنما وجب علينا تذكر انضمام العمال المضربين بجحافلهم إلى المتظاهرين في شتى الميادين، و هم بطبيعة عملهم منظمون و ليسوا بعيدين تماماً عن التسييس مما كان يهدد بإكساب الثورة بعداً اجتماعياً سياسياً مدمراً للمصالح الأساسية للنظام و أعوانه. ثم دعونا نتذكر أيضاً طبيعة تكوين الجيش المصري، فهو كان و مازال جيشاً وطنياً من أبناء الشعب بشتى طبقاته، و لذا فقد انضم كثيرون من أفراده لأهلهم الثائرين و بات مستحيلاً الرهان على انصياع جنوده و ضباطه ذوي الرتب الصغيرة للأوامر بالضرب في حال صدورها من القيادات...حينذاك، تحت ضغوطٍ شتى، و تحت أعين عالمٍ يراقب أتفه حركةٍ و أدقها، و بعد طول ترددٍ و على استحياءٍ قام الجيش بالخطوة الوحيدة المتاحة له على رقعة شطرنج مقفولة لانقاذ ما يمكن إنقاذه من الدولة و النظام... لقد تصرف قادة الجيش بواقعيةٍ يشكرون عليها، أما المنتصر الأول و الوحيد فهو الشعب المصري...إلى جانبه لا يوجد منتصرون أخرون و لا فضل لأحدٍ عليه... ملاحظة أخرى غاية في الأهمية ألا و هي أن الجيش خلع الرئيس باحتفائية مكرماً إياه! كما لو كان غير مسئولٍ عن جرائم النظام طوال ثلاثين سنة و لا عن الشهداء و الجرائم التي ارتكبت في حق الثوار. في يقيني أن الجيش متحرجٌ من ارساء سابقة، ففرعون، كما نعلم، يصعد إلى السماء، لكنه لا يخلع و لا ينبغي أن يقتل! لا يجب ان يترسخ في وعي الرعاع ( أي نحن أبناء الشعب) أن لنا حقاً و أننا نستطيع تغيير الرئيس إذا رأينا ذلك و أردناه... أفيقوا يا سادة! إن الثورة إنما بدأت و ما إزاحة حسني مبارك إلا الخطوة الأولى الرمزية. إن مشكلتنا كشعب ليست مع مبارك الشخص وحده و إنما مع ما يمثله من فسادٍ و قمع استوطن و استشرى في أوصال الدولة المصرية لما يزيد على الأربعة عقود...إذا كان مبارك قد رحل فإن النظام بسياساته و انحيازاته الطبقية و جيوش فاسديه مازال كما هو، و تغيره يجب أن يكون المهمة الأساسية للثورة. كما لا يجب أن تلتبس علينا الأمور، فالمطالبون بمطالب فئوية ليسوا الثورة المضادة و إنما هم مواطنون مصريون يحدسون صدقاً بأنهم إن لم يجهروا بمطالبهم الأساسية التي من أجلها ثاروا فسوف ينسون...الثورة المضادة الحقيقية تتمثل في الذين يرجئون النظر و الاستجابة إلى مطالبهم بما تستدعيه من إعادة تشكيل المجتمع باثين ذعراً من الفوضي و من ثم يتذرعون بها للتدخل و إعادة الأمور إلى ما كانت عليه. مازال الوقت مبكراً للغاية للتأريخ لهذه الثورة و الحديث عنها بأفعال الماضي. بدلاً من الركض وراء الأسماء المحروقة و الأعلام التي يضحي بها النظام بما يتكشف من فضائحهم و سرقاتهم و عوضاً عن صناعة الأبطال و البحث المسعور من قبل الإعلام عن الزعامات فلا بد أن نتيقظ و ننتبه إلى ما يضمن أمان الثورة و استمرارها و هو في رأيي: 1.التطهير الشامل لكل أجهزة الدولة و اجتثاث بقايا النظام السابق الفاسد ( و هم كثر) 2.محاكمات عادلة للجميع لا تستثني أحداً 3. إعادة صياغة المجتمع بما يكفل الحقوق الاقتصادية و السياسية لكل المواطنين. 4. عودة الجيش إلى ثكناته. إذا لم نفعل ذلك فإن بقايا النظام القديم ( وهو بالمناسبة ما يزال قائماً على الرغم من اهتزاز دعائمه و تغيراته الشكلية ) و قاعدته الاقتصادية الأعرض التي ما تزال صامدةً ثابتة سوف تعيد انتاج نظامٍ سياسي يحمي حقوقها هي و شركائها في الداخل و الخارج، نظامٍ لا يختلف كثيرأ عما ثار الشعب عليه، مع احتمال تجديدات في اللون و الرائحة لا تسمن و لا تغني من جوع. الآن، و الآن تحديداً، تبدأ الثورة. أجل! فأنا أخشى ألا تكتمل و أعي بحدة أن سارقي عرق الشعوب و فلول النظام القديم المتوارية و الانتهازيين يتآمرون في الظلام، فهم يدركون إما عن علم أو عن غريزة أن لهم في كل ثورةٍ دوراً ، و هم يتحينونه...أشفق على هذا الميلاد الجديد للأمة المصرية و فرصة إعادة خلق المجتمع من جديد من اللحاق بموكب الثورات المغدورة..يحضرني هنا ثورة 1968 ذات النكهة اليسارية الواضحة في فرنسا و التي انضوى تحت رايتها مفكرون كبار من امثال سارتر ؛ لم يكن أحدٌ ليتصور حينها أن فرنسا ستؤول إلى أقصى اليمين كما هي الآن، و لكنها الأنظمة و المصالح تعيد إنتاج نفسها كالسرطان. ذهب البعض في نشوة الانتصار ( و ما ألذها !) إلى أن الوقت ليس وقت حكمة و تعقل و ليس وقت حكماء، و إني لأختلف مع ذلك كليةً...فالآن، و الآن تحديداً يتعين علينا أن نفكر بعمقٍ و تروٍ قبل أن نخطو أية خطوة...إن ثورةً بلا وعي أو فكر هي مشروع كارثة، و سوف تتحلل لا محالة إلى فوضى مدمرة و من ثم تقع في نهاية المطاف في يد نفس الطبقات المستغلة التي ثارت عليها مخلفةً وراءها بحاراً من الدموع و الدماء. قد نختلف على من نختار و من نصف بالحكمة، أما أهمية الحكمة و التعقل فلا ينبغي أن تفوت علينا. لقد عاد الشعب المصري مرةً أخرى إلى الساحة قوةً ضاربةً يعتد بها، إلا أن اليقظة لا بد أن تكون شعار المرحلة، فأعداء الثورة يتربصون و يعدون العدة بلا ريب، و يصعب التكهن بما ستحمله الأيام المقبلة الحرجة، فإلى العمل!