جسارة العقيد القذافي و شجاعته ليست محل شك. كذلك قدرته علي التحليق و التغريد خارج السرب. فبينما أعلن كل الحكام العرب الذين هانت عليهم العِشرة و العيش و الملح تأييدهم لحق الشعب التونسي في تقرير مصيره و اختيار حكامه،فإن الأخ العقيد ساند صديقه المخلوع، و لم يكتف بمساعدته علي الهرب من أيدي الثوار التوانسة و إنما رفض منح مباركته للثورة التونسية و أعلن في خطبة تليفزيونية أن التونسيين أخطأوا عندما خلعوا رئيسهم، و لم يقدّروا للرجل كل ما فعله من أجلهم!. قال العقيد القذافي إن الزين (زين العابدين بن علي) لا يوجد أحسن منه في هذه الفترة لتولي الحكم في تونس، و أن الرجل كان كريماً مع شعبه عندما وعد الناس في خطبته الأخيرة بألا يبقي في الحكم بعد 2014، مع أنه من المفروض أن يبقي زين العابدين يحكم تونس إلي الأبد!. و عاب القذافي علي الشعب التونسي التعجل و عدم الصبر لثلاث سنوات قادمة حتي تنتهي فترة حكم الرئيس و بعدها فليفعلوا ما شاؤوا، فإذا أرادوا انتخابه من جديد فلينتخبوه، و إن رأوا أن يحجبوا عنه أصواتهم في الإنتخابات و يعطونها لغيره فليفعلوا. كما اتهم الأخ قائد الثورة الليبية موقع "ويكيليكس بتضليل الناس في تونس عندما نشر وثائق دامغة عن فساد الرئيس التونسي و حاشيته و سرقتهم لثروة الشعب التونسي.. و كأنما أراد الأخ العقيد أن يقول للتونسيين: إذا جاءكم "أسانج" بنبأ فتبينوا أن تصيبوا الزين بجهالة!. و أسانج هذا كما تعلمون هو صاحب موقع ويكيليكس الذي فضح السادة اصحاب الفخامة و المعالي و السمو!. كما دعا للتونسيين بالهداية و بأن يثوبوا إلي رشدهم و يعيدوا الزين ليحكمهم من جديد. و لم ينس القذافي أن يقدم النصيحة لشعب تونس بأنهم إذا أرادوا تطبيق النظام الجماهيري (كما في ليبيا) فما عليهم سوي أن يتقدموا بمطلبهم هذا للزين الذي لن يتردد في تطبيقه و تسليم السلطة طواعية للجان الشعبية حتي يحكم الشعب نفسه بنفسه كما فعل الليبيون!. كان هذا هو مضمون الكلمة التي ألقاها القذافي تعليقاً علي الأحداث الأخيرة في تونس و هي كلمة لا تنقصها الشجاعة و الحكمة قرر فيها الرجل ألا يكتم الشهادة التي كتمها باقي الحكام العرب عندما أمسكوا عن ذكرمآثر الرئيس المخلوع و فضائله التي يعرفونها جيداً بحكم العشرة و وحدة التاريخ و الأهداف و بحكم أن بن علي يشبههم جميعاً و أنه لم يفعل بشعبه شيئاً مختلفاً عما اعتادوا فعله بشعوبهم، لكنهم فضلوا الصمت ممالأة للجماهير و مسايرة لها علي حساب الحقيقة!. إذا أردنا التعقيب علي وجهة نظر القذافي لا بد أن نتعرف علي تجربته و علي المنابع الفكرية التي يستقي منها الرجل أفكاره، فبخلاف الكتاب الأخضر فإن حاكماً مثل معمر القذافي ظل علي رأس السلطة لما يقرب من نصف قرن لا بد و أن يري أن بن علي لم يأخذ فرصته كاملة ليقدم كل ما عنده، و يري أن الرئيس الذي حكم لمدة 24 سنة فقط ما زال يخطو في سنواته الأولي في الحكم!. و أرجو عندما ننظر لنصائح القذافي لشعب تونس أن نضع في اعتبارنا حسن نية الرجل و حبه الخير للتوانسة، و قد كان بإمكانه أن يصمت كما فعل غيره و هو يري التونسيين يضيعون من بين أيديهم رجلاً عظيماً!. و لا يجب أن نعتد هنا بالأقوال المحفوظة مثل حق الناس في اختيار حكامها و مثل أن جرائم بن علي و عصابته أوضح من أن يمكن إخفائها و أن الشعب التونسي هو وحده الذي اكتوي بنارها، و مثل أن عائلة بن علي سرقت مليارات الدولارات و مثل أن السجون ابتلعت كل من فكر في الاعتراض علي جرائم الرئيس و أعوانه، و مثل أن بن علي وعد الناس بعدم البقاء في الحكم اكثر من مرتين لكنه عاد و عدل الدستور ليسمح له بالبقاء للأبد، و مثل أن وعده بالرحيل عام 2014 هو كلام رؤساء عرب لا يجب الوثوق به، و مثل أن بن علي حاكم غير شرعي لأنه أتي عبر انتخابات مزورة..كل هذا كلام لا يجب أن نردده لأنه يمكن أن يضايق القذافي الذي يعرف بحكم خبرته مصلحة التونسيين أكثر مما يعرفونها. كذلك يجب أن نضع في الاعتبار النصيحة الذهبية التي أسداها الرجل لشعب تونس عندما حدثهم عن موضوع "الجماهيرية" تلك التجربة التي طبقت في ليبيا منذ سنوات و قد أثمرت الآن و أينعت، و آن الأوان أن تنتقل إلي بلدان أخري لنشر الخير بها و عدم بقائه عند الليبيين وحدهم!. و من تجربة القذافي و معرفته الجيدة بزين العابدين فالرجل متأكد أن التونسيين لو كانوا قد توجهوا له و طلبوا منه التحول إلي النظام الجماهيري لنزل الرجل علي رغبتهم و سلم الحكم للجان الشعبية في الحال و لاكتفي بأن يقوم بدور القائد التاريخي الذي لا يحكم، لكنه فقط يأخذ كل القرارات الهامة و غير الهامة و يحضر مؤتمرات القمة العربية و الأفريقية و يرسم السياسة الخارجية و الداخلية و يعين من يشاء و يفصل من يشاء، و يتحكم بالميزانية و إنفاقها و يسيطر علي الإعلام و يوجهه، و يرأس الجيش و يقوده..لكنه لا يحكم لأن الشعب هو الذي يحكم نفسه بنفسه!. و علي أي الأحوال فالكرة الآن في ملعب الشعب التونسي فإذا أخذ بالنصيحة فاز و نجا، و إذا استعصم بالعناد و أصر علي الحرية و الكرامة فعلي نفسها جنت سبانخ!. و لا يتبقي بعدها إلا أن يدعو القذافي للتونسيين بالتوفيق فيما اختاروه، و يمكن له إذا أراد أن يستفيد من الخبرة الكبيرة لرئيس شقيق طالته البطالة و أصبح عاطلا عن العمل بأن يستحضره ليشاركه حكم ليبيا...آسف ليشاركه عدم حكم ليبيا التي يحكمها الشعب بنفسه!.