كما هي العادة رسبت الإدارة المصرية في امتحان الجدار الفولاذي العازل الذي تقيمه علي الحدود المصرية مع قطاع غزة، وبدت مصر كمن يساهم في إحكام الحصار الخانق حول القطاع، وأصبح الموقف المصري من إنشاء الجدار ثم من التعامل مع قافلة شريان الحياة سببا في استعداء الكثيرين ضد الإدارة المصرية في الداخل والخارج، بعد أن فشلت مصر في تسويق مواقفها، ووضعت نفسها مرة أخري موضع المتهم بصورة اختلط فيها الحق بالباطل والخطأ بالصواب، مابين حقها في فرض سيادتها الكاملة علي أراضيها واتخاذ جميع الإجراءات التي تحمي أمنها القومي، وبين مساعدتها إسرائيل في تجويع الفلسطينيين وتحويل غزة إلي سجن كبير، وأغلب الظن أن السبب في ذلك هو أن مصر لم تأخذ زمام المبادرة بالإعلان من جانبها عن إنشاء هذا الجدار بعد إعداد جيد لأرض الملعب بالشكل الذي لا يوحي باستهداف الشعب الفلسطيني في غزة من هذا البناء، ولكن مصر بعبقريتها انتظرت حتي جاءت التسريبات من الجانب الإسرائيلي ثم حاولت لاحقا المماطلة في الإعلان، وبالغت في الإخفاء الذي حامت حوله الشبهات، وتفتق ذهن عباقرتها عن «اسم دلع» هو الإنشاءات الهندسية في وصف مبهم أقرب للإنشاءات الرملية التي يبنيها الأطفال علي الشاطئ، وسقطت مصر مرة أخري في فخ الكمين الإسرائيلي الذي يتعمد أن يظهرها دائما في موقف المنفذ للأجندة الصهيونية والأمريكية قاصدا إحراج الجانب المصري وتأكيد شق الصف العربي من خلال إخراج يبرز التنسيق الكامل للمواقف، تماما كما حدث عندما زارت وزيرة الخارجية الإسرائيلية القاهرة قبيل ساعات من اقتحام إسرائيل قطاع غزة، وكما يحدث حاليا من إعلان إسرائيل عن إقامة جدار إلكتروني علي حدود مصر وتصريح المسئولين المصريين بأن الأمر لايعنيهم!، ومع ارتباك الحكومة المصرية صارت تصريحاتها كلها مجرد ردود أفعال يائسة، وحاول الإعلام الحكومي استيعاب الموقف وإضفاء بعض المنطق عليه، وتصدي الشيوخ الأجلاء للفتوي السياسية، فاختلف علماء المسلمين حول الجدار العازل مابين قطعيّة تحريمه وحتميّة وجوبه، واختلافهم هنا ليس اختلاف الرحمة ولكنه اختلاف المصالح والتوجهات السياسية، وحين سقط الجندي الشهيد «أحمد شعبان» علي الحدود برصاصة غادرة فإنه كان يؤرّخ لبناء جدارنا الفولاذي في نفس الوقت الذي سقط فيه عدد من الإخوة الأقباط في نجع حمادي ليلة عيد الميلاد المجيد ليأرّخوا لبناء جدار آخر هو جدار الفتنة بين المسلمين والأقباط، هذه الفتنة التي ما تلبث أن تهدأ حتي تستعر من جديد، فتلجأ الدولة علي الفور - كما هي عادتها - إلي الشيوخ والقساوسة الحكوميين لاحتواء الموقف بدلا من أن تفرضَ هيبتها وتُعملَ قانونها، غير مدركة أن هذا يحوّل رجل الدين إلي موظف سياسي حكومي لايؤخذ كلامُه دائما علي محمل الجد، والمؤلم في تصوري أن هذه الفتنة لاوجود لها في قلوب المصريين وإنما تجري صناعتها بأيد خفية في الداخل والخارج، وهو ما يفسر أن المنفذين لأحداثها دائما أبعد ما يكونون عن الالتزام الديني، ولهذا لم يفلح في وأدها مفهوم المواطنة الذي نصت عليه المادة الأولي للدستور، وزادت حالة الاحتقان بين الطرفين فتصور «كلاهما» أنه يعاني التمييز والاضطهاد بينما الحقيقة الثابتة أن الجميع مضطهدون لا فرق بين مسلم ومسيحي ماداموا ليسوا علي دين الحزب الوطني وملّة حكومة رجال الأعمال في ظل الجدار الفولاذي الحقيقي الذي أقامته الحكومة بينها وبين شعب مصر، والذي تقرر فيه أن المواطن لاحقوق له ولا أهمية لرأيه فإذا اقترب منها ابتعدت عنه، وإذا صالحها خاصمته، وإذا رضي عنها غضبت عليه، فهي أمّه وعليه أن يكون الابن البار الذي يصاحبها في الدنيا معروفا مهما خنقته بالضرائب وحاصرته بالرشوة والفساد، وهو لقيط إذا طالب بالحد الأدني من حقوق الشعوب، وبدلا من أن تستقوي الحكومة بالشعب لدعم مواقفها السياسية تستقوي عليه لأنه في نظرها دائما «الحيطة المايلة». إنّ مفهوم المواطنة الحقيقي الذي يساوي بين المواطنين ويعطي للجميع نفس الحقوق والواجبات، لن يصنعه فقط تعبير دستوري أو حتي تعديل المادة الثانية من الدستور التي تنص علي أن الإسلام دين الدولة، وإنما يحققه التطبيق الحقيقي والواقعي لكلمة واحدة هي القادرة علي نسف كل الجدران العازلة ... إنها «الديمقراطية».