للأديب الكبير باولو كويلو رواية مبهرة كتبها بصوت هامس يكاد لا يسمع لفرط شاعريته. الرواية اسمها "علي نهر بييدرا..هناك جلست فبكيت"..تحكي الرواية عن الإيمان بالله و ما يمكن أن يصنعه بالنفوس و عن القوي التي يهبها الله لعباده الطائعين و عن طاقة الأمل المفتوحة للناس دوماً. في حوار بين بطلة الرواية و أحد الرهبان حكي لها الراهب قصة أنقلها لكم بالنص: "كان أحد العلماء يدرس سلوك القرود في إحدي الجزر الإندونيسية، و قد توصل إلي تلقين قرد كيف يغسل البطاطا في مياه النهر قبل أن يأكلها. فحبة البطاطا المغسولة من الرمل و القاذورات العالقة بها تصبح شهية الطعم. و لم يكن هذا العالم الذي يكتب دراسة حول قدرات التعلم لدي هذه الطائفة من القرود ليتخيل للحظة ما سوف يحصل لاحقاً. فكم كانت دهشته عظيمة عندما لاحظ أن قروداً أخري في الجزيرة راحت تقلد القرد المذكور. و حين جاء اليوم الذي تعلمت فيه كل قرود الجزيرة غسل البطاطا، شرعت كل قرود جزر الأرخبيل تحذو حذوها. لكن ما يدعو لدهشة أكبر هو أن القرود الأخري تعلمت من دون أن تقيم أية صلة بالجزيرة التي أجري فيها الإختبار!. هناك دراسات علمية عديدة و متنوعة حول هذا الموضوع.لكن التفسير الأكثر شيوعاً يقول إنه عندما يتطور عدد معين من الأفراد، فإن النوع بأسره يتطور في النهاية. ما زلنا نجهل كم هو عدد الأفراد المطلوب، لكننا نعلم أن الأمور الأخري تجري علي هذا النحو". أدهشتني هذه الحكاية التي أجراها باولو كويلو علي لسان أحد شخوص روايته و توقفت عند فكرة أن هناك عدد معين من الأفراد إذا قمت بتعليمهم سلوكاً معيناً فإن هذا السلوك ينتقل لأفراد آخرين حتي لو كانوا لا يقيمون بنفس المكان، ثم تساءلت عن العلاقة بين هذا و بين نظرية الكتلة الحرجة في الفيزياء و هي تلك النقطة التي إذا بلغها التفاعل سهل عندها حدوث الإنشطار النووي. لا أنكر أن هذه الفكرة ألهمتني و أضاءت أركاناً في نفسي كانت شبه معتمة و منحتني أملاً في التغيير بما قدمت لي من تفسير عن كيف يحفظ الله أوطاناً ملأها الفساد و عاث سلاطينها فيها ظلماً و عدواناً و إرهاباً و تزويراً، و تذكرتُ مقولة يرددها العوام عن كيف يحفظ الله البلاد رغم كل مظاهر الخراب و الجور بفضل الناس الطيبين الذين يمتد تأثيرهم في نفوس الجميع فيبقي شعلة الخير مضيئة و لو واهنة انتظاراً ليوم يأتي فيه العدل الذي طال انتظاره. شعرت أيضاً بشيء كنت أعرفه لكن لا أحسه بدرجة كافية و هو أن إحداث التغيير لا يحتاج إلي ملايين من الثوار الذين يملأ هم الوعي و الغضب ..لكنه يحتاج إلي طليعة من عشرات الآلاف يعرفون الطريق الصحيح و يصرون علي بلوغه في وطن يسكنه عشرات الملايين. و هذا العدد كلما زاد كلما أنبأ هذا بقرب الوصول إلي الكتلة الحرجة التي لا عودة بعدها، و عند وصول هذه الفئة الي عدد معين فإن النوع بأسره يتطور في النهاية. وهكذا فإن هذه الفئة القليلة تسنطيع إذا صح منها العزم أن تجعل الروح ذاتها تسري في كل النفوس و أن تنقل نفس المشاعر إلي أبناء الوطن المبتعدون عن دوائر التأثر و التأثير فتجعلهم جميعاً يقومون بغسل حبة البطاطا قبل تناولها حتي لو كانوا لم يشهدوا التجربة أمام أعينهم..و هذه هي قوة الإيمان و سحره. شكراً باولو كويلو.