شاء القدر وقت تركيب اليافطة الكبيرة لإعلان تغيير اسم المفرخة من "الكمال" إلى "فراخكم الجديدة" أن يصاب كل من صاحب المفرخة وابنه الذي تولى إدارتها منذ ما يقرب من عام باضطرابات معوية حادة بعد أكلة فراخ محمرة جعلتهما يمضيان يومهما بالكامل في التنقل ما بين الفراش وبيت الراحة. وفي اليوم التالي، وعلى الرغم من تعبه أصر الابن على الخروج ليرى اليافطة الجديدة التى كانت بمثابة ميلاد جديد له، ومع اقترابه من مبنى المفرخة سمع بعض الصبية يغنون: "الحديدة .. الحديدة .. بكره نبقى عالحديدة"، فلم يفهم معنى ما يرددونه، إلا أنه بمجرد أن وقع نظره على اليافطة لاحظ عدم وجود نقطة تحت حرف الجيم الذي تحول بذلك إلى حاء، فاستشاط غيظاً لأن الاسم أصبح على لسان الأطفال يشكل دعاية سلبية ستؤثر حتما على سمعة المفرخة المتدهورة أصلا. وكان ذهنه قد تفتق عن كتابة الاسم بالإنجليزية أيضا فكتب NEW CHICKEN FOR YOU مثلت "فور يو" لغزا كبيرا للفلاحين، حتى فسرها شاب كان قد بدأ دراسة اللغة الإنجليزية، وقال - وكأنه استطاع بمفرده فك طلاسم سر من أسرار الكون - إنها تعني "أربعة يو" "4U" وأن "يو" ما هى إلا المقطع الأول من اسم كل فرد من أفراد عائلة سيدي البيه الأربعة ويرمز إليهم: يوحنا وحرمه يولاندا ونجليهما البكري يونس الذي فضل الحياة بالبندر والعمل في التجارة، ويوسف ابنهما الصغير. شاع هذا التفسير واقتنع به الجميع لتوافقه تماما مع الفكر القديم والجديد السائد والممارسات السابقة ومنطق الأشياء بالعزبة. ولم يصدقوا أبدا ما قيل من أن إبراز وتخليد أسماء العائلة لم يكن الغرض من هذا الشعار، وأن المقصود به التعبير عن أن سياسات الإدارة الجديدة هي لصالح أهل العزبة ومن أجلهم. وكان صديق يوسف المقرب ويده اليمنى في المفرخة حمد الوز، مدير الشؤون التنظيمية والإدارية، قد قام بهدم السور الحجري الذي يحيط بها وبنى مكانه سور حديد يشبه قضبان السجن، مؤكدا: "أن الحديد علامة القوة". أما صديقه الآخر عليوه قمر وشهرته زيرو مدير التسويق والدعاية والإعلان، الذي ترجع معرفته به إلى بداية أيام الشباب منذ أن كانا يلعبان سويا بفريق العزبة لكرة القدم. فكانت له قدرة عجيبة على قلب الخسائر إلى انتصارات، أو بالأصح إيهامك بأن الهزائم ما هي إلا انجازات عظيمة، تلك المقدرة الخارقة على قراءة الحقائق بالمعكوس حببت يوسف فيه كثيرا وقربته إلى نفسه. يتذكر دائما عندما خسروا إحدى مباريات التصفية أمام فريق القرية المجاورة خسارة مهينة دون أن يسجلوا أي هدف في مرمى الخصم. فخلال رحلة العودة إلى العزبة، بدأ زيرو يقول: "إنها حقا خسارة مشرفة لأن الظروف لم تكن مواتية". ثم أسرد عددا من الحجج والتبريرات التي لا يتخيلها أي عاقل، من بينها: أن اتجاه الريح كان دائما ضدنا، وأن الكرة كانت معيبة، وأن أرض الملعب لم تكن مستوية، وأنه لو كانت المباراة على أرضنا وليست على أرض الخصم، ولو لم ينحاز الحكم للفريق الآخر لكنا لقناهم درسا لن ينسوه طوال حياتهم، ولو... ولو... ولو...، وعندما وصلوا أمام داره قال مودعا أعضاء الفريق: "مبروك يا جماعة، ألف مبروك!!!" ذاع سيط زيرو الذي عرف بنظرياته وأقواله العجيبة عن الدواجن التي لم يسمع بمثلها أحد من قبل، منها مثلا:"لبي للديك رغباته قبل ما يكاكي"، "طلبات الديك أوامر"،"لا يهم صدر ولا ورك، المهم أنه لحم فراخ". وكانت أقواله بحكم منصبه توزع على كافة الناس وتنتشر بسرعة النار في الهشيم بين السكان الذين كانوا يستخدمونها كمادة للسخرية والاستهزاء به وبأصحاب العزبة. وبفضل تصريحاته العبقرية منحه أهل العزبة لقب دكتور، وأصبحوا يطلقون عليه "الدكتور زيرو". تفاقمت المشاكل بالمفرخة، وبدأت الثقة تنهار بين الابن المتسلط ووالده الشايب، فقد ظن يوسف، أنه بتغيير الاسم وإطلاق الشعارات، وعمل يافطة جديدة باللغتين العربية والإنجليزية وبناء سور من حديد، سيتضاعف الإنتاج ويتحسن نوعيته وستزداد المبيعات بإقبال الجماهير على شراء دواجن المفرخة، إلا أن الجميع شهد بعد فترة وجيزة من الزمن، أن كل التغييرات التي أحدثها لم ينتج عنها أي تحسن في الإنتاج أو زيادة في المبيعات، بل بالعكس سارت الأمور من سئ إلى أسوء. فالتطوير والتحديث والتغيير المطلوب - كما هو معروف لأي مربي دواجن مبتدئ - هو في توفير الظروف المناسبة لنمو الصيصان وتوفير احتياجاتها من الحرارة والتهوية، والرعاية السليمة للكتاكيت، واستخدام الأعلاف المضمونة، وتحسين الكفاءة الغذائية وإضافة المواد الطبيعية إلى العليقة، وتأمين الرطوبة المناسبة، والاهتمام بالتدفئة والمساقي، وتوفير الإضاءة الجيدة، وحماية الدواجن من الأمراض والتلوث و... و.... ازدادت خسائر المفرخة بصورة مطردة وتراكمت الديون عليها. مما جعل بنك التسليف الزراعي يهدد بتنفيذ الرهن على المفرخة والأراضي المجاورة المرهونة لصالحه ونقل ملكيتهما إليه، ما لم يتم دفع جميع الأقساط والفوائد المتأخرة خلال شهر. حاول الأب إقناع يوسف وأمه بترك الإدارة لأحد الخبراء المتخصصين في تربية الدواجن إلا أنهما رفضا مناقشة الفكرة من أساسها، وأقسمت يولاندا – التي طالما احتضنت ابنها الصغير كما تحتضن الدجاجة بيضها - بأن قرة عينها لن يترك مكانه لأي مخلوق مهما كانت مؤهلاته وخبراته ومهما علا شأنه. اضطر العجوز - تحت ضغط الديون - إلى بيع قطعة أرض تقع على ناصية الشارع الرئيسي بثمن بخس لتسديد الأقساط المستحقة للبنك. هذه القطعة، كان قد توارثها من أجداده وكانت معروفة بخصوبة تربتها العالية، مما جعل الفلاحين يطلقون عليها "أم الزبدة" من كثرة الخير الذي كانت تجود به. وقام المقاول الذي اشترى هذه القطعة بتبويرها، وبنى عليها عمارة سكنية. ولازالت خسائر المفرخة في تصاعد مستمر...... وتحولت حياة أهل العزبة إلى جحيم.