قبل ما يزيد على الثلاث سنوات، كتبت في الدستور الورقي مقالاً عن جلسة جمعتني بالمخرج "إبراهيم البطوط".. كان يتحدث عن قناعته برعب النظام من الصورة، وكيف أن ظهور شخص يحمل كاميرا في ميدان التحرير، كفيل باثارة القلق بين صفوف الضباط المتناثرين في الشوارع.. هذا الرعب الذي تظهر تجلياته في عدد كبير من الحواجز الرسمية، التي يتوجب على أي مبدع سينمائي أن يتخطاها قبل أن ينفذ فيلماً جديداً.. حواجز تبدأ من ضرورة وجود ختم الرقابة على النص المكتوب للفيلم، ولا تنتهي بالحصول على تصاريح تصوير أمنية، اي تصدر عن وزارة الداخلية، قبل تنفيذ اي مشهد. رعب الصورة، كما كتبت وقتها، يبدو منطقياً تماماً.. فمقالة من الف كلمة تتحدث عن مهانة المواطن المصري، تغني عنها صورة واحدة لطابور من المسحوقين أمام كشك لبيع الخبز المدعم تحت قرص الشمس الحارقة.. فضلاً عن أن معاني الصور يصل للجميع، بغض النظر عن مستوى تعليم أو ثقافة. طبعاً نستطيع الآن أن نستفيض في الحديث عن هذا الرعب: قرارات اللجنة العليا للانتخابات بمنع تصوير اللجان الانتخابية، وقرارات وزارة الإعلام بوضع "معايير" لمراقبة أداء البرامج الحوارية في المحطات الخاصة، وقبلها بقليل قرار التضييق على توزيع أجهزة البث المباشر، ونذكر ايضاً قرار منع دخول كاميرات المحمول ذات الكاميرا الى اقسام الشرطة.. لكنني لن استفيض في ذلك، أريد فقط أن أتحدث عن ذلك المخرج الذي قرر فرض صورته على النظام المرعوب. هو "ابراهيم البطوط" نفسه.. وقت محادثتنا التي اشرت اليها، لم يكن قد انجز مشروع "عين شمس".. ذلك المشروع الذي فوجئنا به جميعاً وقد تحول الى فيلم روائي طويل، يحظى بالإشادات والجوائز في مهرجانات دولية، دون أن يكون قد مر على المراحل الرقابية التي يفرضها النظام لكتم أنفاس أي عمل سينمائي.. ظهور "عين شمس" المفاجئ للجميع، كان مربكاً، وعندما حان وقت عرضه في الصالات المحلية، اضطر النظام للتعامل معه باعتباره فيلماً أجنبياً للتحايل على فشله في مراقبته وقت صناعته.. بالنسبة لأغلب المتابعين والمتعاطفين مع تجربة "البطوط"، كانت المسألة أقرب لحيلة، لجأ اليها كي يفرض وجوده كمخرج سينمائي محترف، رغم أنف آليات السوق السينمائية، وبالتالي توقع كثيرون أن تكون خطوته التالية، عبر مشروع نظامي خاضع للمعايير والقيود، التي نرى أنفسنا مضطرين دائماً للتسليم بوجودها.. خصوصاً أن "عين شمس" ف نهاية الأمر، كان يبدو ثورياً في طريقة تنفيذه، لكنه لم يكن ثورياً في محتواه، ولو تخيلنا أن له سيناريو مكتوب ومعروض على الرقابة، فلم يكن متوقعاً أن يتم الاعتراض على مضمونه أو أياً من مشاهده. المدهش تماماً، أن البطوط فاجأنا هذا العام بفيلم ثان يهبط علينا بالبراشوت، لا نسمع عنه الا عند عرضه في مهرجان الدوحة تريبيكا واقتناصه للجائزة الأولى هناك.. تجربة فيلم "حاوي" تكتسب أبعاداً أهم وأعمق من مجرد فرض اسم صانعه كمخرج محترف، فقد أصبحنا أمام "طريقة بديلة" لصناعة الأفلام.. طريقة تحفظ لكل من يرى في نفسه الموهبة والقدرة، أن يحقق عمله السينمائي، دون الحاجة لانتظار موافقة جهة رسمية، ودون الاضطرار لتوسل _أو تسول_ موافقة جهة انتاجية.. طريقة تبدو في بساطتها أشبه بلعبة صبيانية، لكن هذه اللعبة كفيلة بتحقيق كل الأهداف التي يعجز عن تحقيقها الكبار. لم أشاهد فيلم "حاوي" حتى الآن، وبالتالي لا اعلم إن كان محتواه مثيراً لحفيظة النظام، كما لا أستطيع الجزم بجودته الفنية من عدمها.. لكن التجربة في نظري تحمل إنجازها العظيم في مجرد وجودها، وفي كونها تقتنص لصناع الأفلام نفس حرية كتاب المقالات والروايات.. هي تجربة تفتت كل العوائق التي يتفنن النظام في زراعتها لمواجهة رعب الصورة، تجربة تعطي الكاميرا حقها الأصيل في التعبير بحرية كاملة.. تجربة مغرية، اتوقع أن يحذو حذوها كثيرون في القريب العاجل، وعندها ستصبح إجراءات من نوعية عرض سيناريو الفيلم على الرقابة، واستخراج تصاريح التصوير من وزارة الداخلية، عبثاً مضحكاً لا طائل من ورائه.. بفضل هكذا تجارب، وهكذا أفكار من خارج الصناديق المعلبة، نستطيع أن نأمل في غد أفضل، وأكثر حرية ورحابة.