ليس تعسفاً لحكم علي نظامنا التعليمي القومي بأنه طارد للإبداع. ويمكن الذهاب إلي نتيجة أبعد: ليس لدينا نظام قومي محترم لرعاية الأطفال والطلاب الموهوبين. ربما تكشفت هذه النتيجة من خلال واقعتين محددتين، واقعة طالبة الإعدادية آية، صاحبة موضوع التعبير الشهير قبل عامين، والتي اعتبرها المصححون «خارجة عن النص»، وذلك لمجرد أنها «عبرت» عن رأيها بصدق وشجاعة، وهو الشطط الذي هدد برسوبها في البداية، وقبل أن يتطور الأمر ويصل إلي تدخل رئيس الجمهورية لرفع الظلم الذي حاق بها، ووسط مساندة إعلامية قوية للطالبة آية. وقبل أيام وجد وزير التعليم ومعاونوه في حيرة أمام حالة الطفلة خديجة، التي فازت بالمركز الأول علي مستوي الجمهورية في مسابقة القرآن الكريم، والثالثة علي مستوي العالم من بين متسابقي 60 دولة، والتي وقف وزير التعليم حائراً أمام حقيقة أن مستواها العقلي يفوق مستوي مناهج الصف الثاني الابتدائي، لأنها تعلمت القراءة والكتابة وحفظ وتجويد القرآن قبل أن تدخل المدرسة وبالتالي لن يضيف إليها التعليم شيئاً في هذه المرحلة فمستواها الفكري والعقلي يفوق بكثير مقررات صفها، ولا تسمح القوانين الحالية بنقل هذه الطفلة إلي مستوي دراسي أعلي لأننا لا نأخذ بنظام التسريع، وفي غياب مراكز التميز ذات المسار الخاص والمناهج المرنة، ولم تفلح مقابلة الوزير الاحتفائية بها أن تحل المشكلة. ليس لدي خديجة حظ الطفل مارش بويديارديو، وهو طفل صيني من أصل إندونيسي، ويبلغ من العمر تسع سنوات، وهو موهوب في الرياضيات، ولذا أدخلوه الجامعة المعمدانية في هونج كونج لدراسة الماجستير، بعد حصوله علي شهادة A.S. باحتيازه اختبارات المستوي المتقدم إليها. وخصصت الجامعة برنامجاً من خمس سنوات للطفل. هكذا يعاملون الموهوبين في النظم التعليمية المتقدمة. نظامنا التعليم، إذن غير مهيأ للتعامل مع العقول الإشكالية، والطاقات غير النمطية بين أطفالنا وطلابنا، وهو ما يحتاج إلي نقاش مستمر من أجل امتلاك رؤية جديدة لرعاية الموهبة، وإطلاق مناخ الإبداع في نظم التنشئة المجتمعية، ومن بينها المدرسة والجامعة. وقبل سنوات، تساءل الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي في كلمته الافتتاحية في المهرجان الذي نظمته إيران بمناسبة مرور ألف عام علي وفاة ابن سينا، عن أسباب اختفاء المبدعين أمثال ابن سينا، وابن رشد، والفارابي من الفضاء الإسلامي. ربما تكون الإجابة المبدئية عن هذه الملاحظة المهمة تنحصر في ثلاثة أسباب رئيسة: النظم السياسية الاستبدادية، والثقافة القمعية الأبوية، وجمود النظم التعليمية. ومن خلال خبرة سابقة، في المرة اليتيمة في تجربتي التي اقتربت فيها من وزارة التعليم، وذلك عندما شاركت في اللجنة التحضيرية لمؤتمر الموهوبين، في إبريل 2001م، وإبان وزارة د. حسين كامل بهاء الدين، كانت الآمال معقودة علي حدوث تحول في سياسة رعاية الموهوبين في مجتمعنا المصري، ومع أن مناقشات المؤتمر أكدت أهمية قيام مركز قومي لرعاية الموهوبين، إلا أن توصيات المؤتمر اختزلت المطلب إلي إنشاء إدارة الموهوبين بوزارة التعليم، ولم نسمع لها صوتاً ولا صدي من يومها وحتي الآن. ويبدو أن الظرف السياسي كان مسئولاً عن ذلك، بمعني أن المسئولين تحسبوا لعدم تحمس الحكومة لاعتماد المخصصات اللازمة لهذا المركز القومي، وخاصة في ظل الحساسيات بين الوزير وبعض أعضاء مجلس الوزراء وقتها. وهكذا ضاعت فرصة حقيقية كان يمكن أن تمثل انقطاعاً في واقع التجاهل أو الضعف الرسمي في تعاملنا مع الموهبة والموهوبين في مجتمعنا. ضلعا العملية اكتشاف الموهبة - وخاصة في سنوات الطفل الأولي - ورعايتها تالياً، وتحفل تربية ذوي الاحتياجات الخاصة (ومن بينها الموهوبون) بتراث هائل حول المكونين السابقين، وأنا أفضل تسميتها ب «ذوي الحقوق الخاصة»، سواء من بين أصحاب القدرات الإبداعية، أو المعوقين، أو بطيئي التعلم. كعب أخيل الحقيقي في تعليم أبنائنا هو سيادة التعليم التلقيني، وثقافة الاجترار والاستظهار علي حساب ثقافة الحوار والإبداع والاكتشاف والنقد، ونحن نفهم الثورة التي يقابل بها الرأي العام والإعلام أسئلة الشهادات العامة التي تقيس القدرات العليا، وهو اتجاه صحيح من الناحية العلمية، أي وجود أسئلة امتحانية تقيس القدرات العقلية العليا، ولكن يغيب وجه الإنصاف عندما تغيب أساليب التدريس الإبداعية داخل الفصول، وعندما يفتقد المعلمون أنفسهم هذه الثقافة. بالمقارنة بوضعية التعليم الجزئي أو الشكلي في مدارسنا، والتي تنسحب فيه العملية التعليمية إلي المنازل بعد أقل من شهر من بداية الدرس، ومع معلمين منهكين، محبطين، وباحثين بدورهم عن الخلاص الفردي أمام ضغوط المعيشة، وأولياء أمور يلهثون في لعبة المقاعد الموسيقية، فيشترون الخدمة التعليمية الأفضل، وبالتالي الفرصة الأفضل بأموالهم، هذه الوضعية تشكل عائقاً حقيقياً أمام رعاية الموهوبين وغيرهم، باعتبار أن دور المدرسة نفسه معطل أو معلق أو مرفوع حتي إشعار آخر، وعلي مستوي مجتمعي، ليس لدي الأسر المصرية ثقافة إبداعية لرعاية الموهوبين، لا تتسم القدرات الإبداعية بالندرة ولكن الاعتراف المجتمعي بها هو الذي يتسم بالندرة. وما زلنا نتعامل مع المبدعين والموهوبين بشيء من الاستخفاف، ويفتقد تعليمنا ومجتمعنا وجود نظام قومي لرعاية الموهوبين والمبدعين بعد اكتشافهم، وهي تفسر الحيرة التي تنتاب كل رب وأب، عندما يسأل ماذا أفعل مع طفلي الموهوب في المنزل أو الفصل. إن التفكير في إنشاء مركز قومي لرعاية الموهوبين أصبحت مسألة ضرورة ومصير لا ترف، وكما يقول البروفيسور مايكل عطية مدير كلية ترينيتي بجامعة أكسفورد «الأحسن للبلدان أن تكون فيها مؤسسات أكاديمية ممتازة من أن يكون لها جيش قوي».