اندلع جدل واسع في بدايات القرن العشرين في مصر حول الطريق الذي ينبغي أن يسلكه المصريون من أجل النهضة وانقسم المصريون إلي فريقين، فريق يقول إنه لا سبيل للنهضة والتطور إلا بتبني أطروحات الفكر والحضارة الغربية المعاصرة حلوها وشرها، بينما دعا الفريق الآخر إلي حتمية تبني المنهج الإسلامي في الدين والدنيا لإصلاح شئوننا والنهوض من كبوتنا. الفريق الذي دعا إلي تبني الحضارة الغربية دعا إلي العلمانية فيما يتعلق بمجال السياسة ولم يستبعد أن يكون المواطن متدينا فيما بينه وبين ربه أي داخل جدران بيته ومسجده أو كنيسته، بينما الفريق الذي تبني الفكر الإسلامي رفع شعار«الإسلام دين ودولة»، كما لم يستبعد أن نستفيد من الحضارة الغربية إيجابياتها ونتجنب سلبياتها. الفريق العلماني رأي بشكل ضمني حينا وبشكل مباشر في معظم الأحيان أن حضارتنا العربية أو الإسلامية هي سبب تخلفنا عن ركب التقدم التكنولوجي الذي شهدته أوروبا في العصر الحديث، ولا يمكن التقدم إلا عبر التخلي عنها والتبني الكامل للحضارة الغربية الحديثة في كل المجالات، كما رأي كثير من أقطاب هذا الفريق أن مصر تنتمي إلي الفراعنة ولا تنتمي إلي العرب ومن ثم فتوجهها للغرب ليس لأنه من مصلحتها فقط ولكن أيضا لأنها لا تمت للحضارة العربية «حاملة رسالة الإسلام» بصلة. الفريق الإسلامي أعلن أن التخلف الحضاري الذي شهدته وتشهده المنطقة هو بسبب تخلي الأمة عن المنهج الإسلامي الأصيل وانحرافها عن تعاليم الإسلام الحقيقي، وأن الأمة الإسلامية والعرب عندما تمسكوا بالإسلام كمنهج حياة دينا ودولة أبدعوا حضارة زاهرة يشهد لها العالم بالتفوق وذلك منذ عهد النبي محمد -صلي الله عليه وآله وسلم- وحتي نهاية عهود الازدهار الإسلامي، بل وحتي عهود الجمود في التاريخ الإسلامي لم تخل من بعض جوانب الازدهار في بعض جوانب الفكر والفن والعلوم. باستمرار النقاش وبمرور الوقت نقح كل من الفريقين أطروحاته فلم يعد هناك مكان للجمود علي الأطروحات التراثية فقط لدي الفريق الإسلامي ومن ثم ضعف الفصيل المنتمي لمدرسة الجمود هذه بين الفريق الإسلامي، كما لم يعد هناك عداء لكل ما هو قديم أو تراثي عربي أوإسلامي لدي الفريق العلماني وانزوي ذوو مثل هذه الميول في زوايا هذا الفريق العلماني «باستثناء الحالة الماركسية». كل هذه المناقشات كانت بين النخبة الفكرية والثقافية، بينما ظلت أغلبية الشعب مطحونة في البحث عن لقمة عيشها بعيدا عن أي أفكار لا إسلامية ولا علمانية، ولكن تلامذة الشيخ محمد عبده أعطوا زخما فكريا وعمليا للفريق العلماني عندما قاد قاسم أمين «تلميذ الشيخ» ما سمي حركة تحرير المرأة وأصدر كتابيه علي التتابع «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة»، كما أعطي تلميذ آخر للشيخ محمد عبده دفعة عملية للتوجه العلماني في مجال الاقتصاد وهو طلعت حرب باشا الذي أسس بنك مصر وشركاته علي أسس رأسمالية بحتة لم تتأثر لا بالمنهج ولا الحضارة الإسلامية في شيء اللهم إلا في التصميمات المعمارية والديكورات الخاصة بمقار البنك، ثم أعطي سعد زغلول باشا دفعة عملية أخري للحركة العلمانية «وسعد تلميذ للشيخ محمد عبده أيضا» في المجالين السياسي والاجتماعي عبر ثورة 1919 التي اعتمدت شعارات وأطروحات علمانية ليبرالية وترجمت ذلك في دستور 1923 العريق، وهذه الحركة وإن أعطت دفعة للمشروع العلماني سياسيا في صورته الليبرالية إلا أن ذلك كان مفيدا للحركة الإسلامية لأن أجواء الحرية التي تتيحها الليبرالية مفيدة جدا لحركة التيار الإسلامي، إلا أن خطورة ما فعله سعد بالنسبة للحركة الإسلامية تكمن في أنه استغل إنجازاته السياسية بنجاح من أجل تغيير المجتمع نحو مزيد من القرب من القيم الاجتماعية الغربية ونجح في ذلك هو وخلفاؤه سواء من أحزاب الأقلية أو حزب الوفد الذي قاده من بعده مصطفي النحاس عبر مناهج التعليم وسياسات التوظيف التي كان قد أسس لها الإنجليز علي يد اللورد كرومر واستمروا في متابعتها حتي خروج الاحتلال من مصر. جاءت ثورة يوليو باتجاه بدا أنه جديد علي مصر ومختلف عن الاتجاهين السابقين وهو الاتجاه «القومي العربي»، فلا هو وطنية مصرية كما دعا الفريق العلماني منذ مطلع القرن ولا هو«أممية إسلامية» كما دعت لها الحركة الإسلامية. كان عدد من قادة ثورة يوليو وعلي رأسهم عبد الناصر والسادات وخالد محيي الدين تلامذة لبعض الوقت لدي الإمام حسن البنا كما استمعوا وأعجبوا بأحمد حسين «زعيم مصر الفتاة ذي الاتجاه العروبي في آخر أيامه» ومن ثم قد نشعر بشيء من الميول أو بتعبير أدق المظاهر الإسلامية لدي هذا الاتجاه، ولأن هذا الاتجاه كان عروبيا فلم يدع لقطيعة مع تاريخنا وتراثنا العربي الذي هو أيضا إسلامي، لكن أيضا هذا الاتجاه كان علمانيا فعبد الناصر وخالد محيي الدين وغيرهما تتلمذوا كثيرا علي رموز التيار الماركسي في مصر ثم هم اختاروا العلمانية في الحكم وناصبوا الإخوان المسلمين وأطروحاتهم الإسلامية العداء، ولذلك فرض عبد الناصر العلمانية في الحكم لكن هذه المرة «وبعكس سعد في ثورة 19» دون الليبرالية، واستمر نهج نظام حكم يوليو علمانيا وبلا ليبرالية حتي اليوم. وبذلك نري أن الجدل الإسلامي العلماني ظل بين النخبة فقط حتي اليوم، أما الأخذ بالخيار العلماني فقد فرضه قطاع من النخبة دون اختيار من الشعب عبر ثورتي 1919 و1952.