مناخ من الود يسود هذه المدينة، وبشاشة لا يمكن تصورها إلا فى مدينة أفلاطون الفاضلة تحملها وجوه أهلها.. كازان عاصمة جمهورية تترستان، بلد متعدد الديانات لأغلبية مسلمة.. يعيش فيها الملسمون فى سلام مع المسيحيين وأقلية من اليهود.. الجامع بجوار الكنيسة والحجاب يقابله الميكروجيب وطاقية اليهود المعروفة.. لم يكن غريبا إذن أن تحتضن هذه المدينة أول مهرجان من نوعه يحمل الطابع الإسلامى، وهو مهرجان كازان الدولى للسينما الإسلامية.. لا هدف للمهرجان سوى تقديم صورة صحيحة للإسلام وللمسلمين، وليس أفضل من صورة المسلمين فى هذه المدينة وتعايشهم الهاديء الوقور مع غيرهم من ذوى الديانات الأخرى. فى رابع أيام المهرجان دعتنا صديقة تترية مسلمة اسمها "وسيلة" درست الإعلام فى جامعة القاهرة إلى منزل أهلها رغبة منها فى إضفاء مزيد من الحميمية على مناخ بلد حميم حقا مع الجميع.. كنا ثلاثة مصريين وتونسى واحد.. وقبل أن نصف جو الدفء الفياض فى المنزل التترى، سنوضح فقط أننا كنا نتناقش ونجرى حوارات متداخلة حول السينما والأفلام.. ذكرنا أسماء مخرجين من عينة الأمريكي كونتين تارنتينو وفيلمه الأخير Inglourious Basterds والمخرج الإيرانى عباس كياروستامى وفيلمه Taste of Cherry أو طعم الكرز والمخرج التركى يلماظ جوينيه وفيلمه المهم Yol، وعلت حدة المناقشة بعد أن تطرق الحديث فيها إلى أفلام مهرجان كازان الدولى السادس للدول الإسلامية وأى الأفلام أفضل وأيها أهم وهكذا. وجدت "وسيلة" أن المناقشة ربما ستؤثر على الطابع الهاديء للمنزل فغيرت الموضوع وقالت بفرح طفولى إنها تضع على "الدش" قنوات عربية كثيرة لأنها تتعلم اللغة العربية وترغب في تقويتها، وفورا أمسكت بالريموت ووصلت إلى قناة MBC والتى كانت تعرض لسوء حظنا نحن المصريين فيلم "اللمبي"، ليس هذا فحسب، بل إنها كانت تعرض ذلك المشهد "المؤثر" فيه والذى يرقص فيه اللمبي في فرحه! أصاب ثلاثتنا خجلا لا يمكن وصفه، فبعد كل هذا التنظير عن السينما العالمية، نعرض نحن بضاعتنا المتمثلة فى فيلم "اللمبى".. خجلنا فعلا من المشهد ومن الفيلم، وهكذا تصبح مقولة الإساءة لسمعة مصر واردة وحقيقية، فمثل هذه الأفلام فعلا لا يجوز أن تصبح عنوانا للسينما المصرية وتيارا سائدا فيها، حتى وإن كان وجودها حتميا بمنطق أن السينما تجارة أيضا كما أنها فن، لكن أن تصبح هى الأصل والأفلام الفنية الجديرة بالمناقشة بمثابة شطحات فنية نادرة، فهذه هى الإساءة بعينها. عموما وبعيدا عن الخجل الذى انتابنا فقد امتصت الأسرة التترية خجلنا بمنتهى الحنان والألفة، فالمنزل يشبه منازل أى أسرة متوسطة فى مصر.. بفرشه البسيط المتنساق ومساحته الضيقة التى نجدها فى مساكن فيصل وإمبابة.. ربما لذلك أحبت "وسيلة" مصر وأهلها، وهى مصرة أن تعود إليها مرة أخرى لاستكمال دراستها، وربما لذلك أحببنا نحن كازان وأهلها. ومن جهة أخرى وعودة إلى أنشطة المهرجان، فإن عرض الفيلم المصرى "واحد صفر" فى بداية اليوم مسح حالة الخجل التى انتابتنا نحن المصريين تماما، خصوصا مع الإقبال الجماهيرى المذهل الذى حظى به الفيلم، ومع التفاعل الرائع مع أحداثه، فقد تمت دبلجته باللغة الروسية وهو ما ساهم فى فهم الجمهور لأحداثه.. أعجب الفيلم الجمهور بشدة واحترموه وصفقوا بعد انتهائه تصفيقا حادا، وهو ما أخرجنا تماما من حالة التوتر التى أصابتنا مسبقا. برنامج اليوم الثالث للمهرجان كان حافلا بالأفلام المهمة، والتى حظيت بإقبال جماهيرى ضخم، واحتفاء نقدى من قبل حضور المهرجان من الإعلاميين والصحفيين والنقاد، فقد تم عرض خمسة أفلام روائية طويلة وهى المصرى "واحد صفر" و الألمانى Lippels Traum والأفلام الروسية العائلة وstory Bibinur وWho was not there وعشر أفلام وثائقية وأهمها الفيلم الإيرانى Legend of the Afghan Mujahidin للمخرج الإيرانى محمد رضا عباسيان.. مدة الفيلم 73 دقيقة، ومصدر أهميته أن مخرجه عاش وتعايش مع المجاهدين الأفغان الحقيقيين الذين لا ينتمون لتنظيم القاعدة ودورهم أثناء سقوط القاعدة وطالبان منذ عام 1996 وحتى عام 2009 بعد انتخاب حكومة حامد كارازاي، وخلال الفيلم وخلال هذه الفترة الطويلة جمع المخرج جميع مقابلاته مع زعماء المجاهدين وكثير من أعضاء القاعدة، ثم عاد بعد سقوط طالبان وانتخاب حكومة كارازي ليجد أن الأمور مازالت كما هى.. نفس الفقر ونفس الوجوه البائسة مع تغير واحد فقط، وهو أن المجاهدين لم يرغبوا هذه المرة فى مقابلة المخرج، لكنه زار قبور من قابلهم ولقوا حتفهم خلال فترة غيابه عنهم!