عيد سعيد عليكم.. وعلي كل الوجوه المصرية الحزينة التي تنتظر لحظة فرح!! فرج من كروب كثيرة!! للعيد ذكريات عديدة في نفسي محفوظة في ذاكرتي.. وذاكرتي مخزن سحري أغترف منه وأدافع عنه وكأنه حريتي أو حياتي.. وأدون بعضها في دفتري الشخصي.. قضيت ثمانية أعياد في سجني كان أقصي أملي أن أهرب لأسرتي ولأولادي نصا صغيرا بخط يدي.. نصا بحجم قبضة وربما أصغر!!لأقول لهم كم أحبهم وكم يؤلمني أن أري وجه العيد دونهم!! كم كان يحزنني عجزي عن مبادلتهم القبلات واصطحابي لمحال الملابس وللصلاة في الساحات؟!! كم يشقي السجين بسجنه وكم يشقي بحريته، عندما تتحول أحلامه الإنسانية البسيطة إلي فقاعة هواء.. تزحف.. تتغير فوقها ألوان الطيف ومشاعر ومواقف البشر. علي بقايا أحلام قديمة؟!! أدركت مبكرا هذا العيد.. صاغرا - أن كائناتي الأثيرة بعيدة فابني الأكبر يطلب العلم في الصين!! في رحلة تمتد لشهور والصغير يناديه الفن وعالمه الخاص لاأحد بات مهتما بالذهاب لمحال الملابس ليلة العيد ولا بمبادلة القبلات ولا بالصحبة إلي الساحات!! الفتات الذي تبقي في كفي محيطا من الغرب يدفعني لسبب لاأدريه إلي مزيد من الانتماء!! مزيد من الارتباط بأشياء منفصلة فمهما تغيرت معاني الكلمات ووجوه الناس والصوت والصدي والظاهر والباطن حتي النخاع فكيف لإنسان يشعر ويفكر ويتذكر أن يحتمل في حياته كل هذه التقلبات؟! فكما قلت في السطور السابقة ذاكرتي مخزني السحري الذي أدافع به عن حياتي!! أدركت مبكرا هذا العيد أن المشي بين غرف بيتي الخالي ليس احتفالا هانئا انسليت من مقعد مكتبي المزدحم بالأوراق والكتب ومن سريري البارد ولهاث هاتفي المحمول ومن جولات طرق الأبواب ( وكان آخرها في المنيا الأربعاء )سحبت حقيبة صغيرة وآلة تسجيل ومجموعة من الشرائط وقررت أن أهجر الورق والقلم وأرحل.. وصلت إلي معشوقتي الإسكندرية قررت أن أحتسي قدحا من القهوة علي مقهي تريانوه الشهير، جلست وحيدا علي طاولات تمتد بمحاذاة الرصيف المطل علي تمثال وحديقة سعد زغلول بمحطة الرمل.. انشغلت الطاولة المجاورة لي برجل في نهاية الخمسينيات محترم في صورته وهيئته وقد أمسك بجريدة بدأت أسمعه وهو يقرأ بعض الأخبار بصوت عال!! ثم يسأل بتهكم ويجيب عن نفسه بحسم حديثا غير مترابط ينظر بين الحين والآخر إلي وجهي وكأنه يحاول أن يتذكرني ثم يخفي وجهه بالجريدة ويواصل القراءة والأسئلة والأجوبة بصوت يخترق صوت السماعات التي أضعها في أذني!! قررت أن أنصرف تاركا له المكان متجها بمحاذاة البحر إلي شاطئ إستانلي، حيث يقع منزلي السكندري، وإذ بي أكتشف أن الرجل يواصل السير خلفي مستمرا في حديثه مع نفسه وبصوت لافت للمارة والسيارات كلما أسرعت أسرع وكلما ابتعدت عنه اقترب مني!! بدأت أشعر بالخجل لأن السيارات التي تمر إلي جوارنا تنظر بدهشة لرجل يحدثني بصوت مرتفع وأنا كأني أهرب منه!! أو لاألتفت إليه!! أو أتجاهله!! توقفت أمامه وقلت له بابتسامة كل سنة وأنت طيب!! وعيد سعيد!! فقال: في دنيا الخيال فقط يمكن أن تكون طيبا وسعيدا وأجهش بالبكاء!! بدأ يخرج من جيب بدلته أوراقا ثم ينخرط مجددا في البكاء!! وهو يردد عبارات غير مترابطة ثم يقطعها بضحكات عالية ثم يعود ثانيا للبكاء!! قلت له أنت متعب اذهب لبيتك لتستريح!! فقال لي: زوجتي وأبنائي هجروا بيتي!! والمرأة اليونانية المسنة التي كانت تسكن في الدور الأعلي أصابها مرض السير نوما وسقطت من النافذة إلي المنور!! والغرف التي في البدروم تحولت لبيوت للدعارة يرتادها سائقو خط ليبيا!! وبائع الفول الذي كان علي الناصية مات منه ولده بعد أن صدمته سيارة الكورنيش فهدم العربة ورحل لبلده في الصعيد والشغالة سرقتني وهربت والبواب أصبح قوادًا برخصة سمسار شقق مفروشة وابنه فتح فاترينة سندوتشات كبدة تتصاعد منها رائحة زيت قذر علي نافذتي. حاولت أن أقاطعه وسألته: ما عملك؟ فقال لي ليتني كنت سمكريا أو سباكا فقلت له: وماذا تعمل؟ فقال أستاذ بالجامعة؟!! رجل كبير فقد بيته ففقد عقله فأصبح يحب الشوارع المزدحمة أكثر من البيوت الخاوية، والمقاهي أكثر من الغرف الخالية لا أحد يسأل عنه فبات يسأل نفسه ويجيب عليها!! ليت أحدًا من أسرته يقرأ هذه السطور ويذهب إليه يعتذر له ويقبله ويحتضنه ويمسح دموعه ويعطيه أملا في أن يعيش ما تبقي له حيا أو يموت كريما!!