أبو عماد صديق عزيز زاملته في سجون مصر في الثمانينيات ودافعت عنه أيضاً، تعلو بسمة حانية علي ثغره وتغمر محياه بلا تكلف أو افتعال، هو من أجيال وسيطة في الجماعة الإسلامية المصرية، التحف بالدعوة وصار من خطباء الجماعة ووعاظها، حتي في أتون الحرب التي دخلتها حافظ علي مسافة وفرت له خصوصية بعيداً عن ميادين الحرب والقتال، انشغل في الدعوة وحدها والكتابة، لعله في ذلك يتنسم خطي أستاذه الأثير الشيخ عبد الآخر حماد أحد أبرز وأهم شيوخ الجماعة الإسلامية وعلمائها هو أيضاً حاول جاهداً كفكفة نوازع القتال والعنف لكن الملابسات التي أحاطت بالمشهد آنذاك حالت دون تحقيق النتيجة المرجوة، غير أنه - أي حماد - لعب دوراً مهماً في مساندة إخوانه قادة الجماعة عند طرحهم المبادرة الشهيرة السلمية لوقف العمليات المسلحة، ونفس الشيء فعله أبوعماد الصعيدي الحسيني حلمي عرمان. هناك أجيال في الجماعة الإسلامية دانت لقيادتها بالطاعة في كل أحوالها، ارتبطوا بشيوخهم ارتباطاً لا يقبل القسمة أو الانفصام، عاشوا معا أجواء الدعوة والانتشار في جامعات مصر وأحيائها ومساجدها، وائتلفوا معاً في كتائب المواجهة، وإذا شهد المواجهات نفر من أبنائها في ظروف صعبة وقاسية من تاريخ مصر القريب، فإن نفراً آخر حاول أن يبقي علي مكانه في مجالات الدعوة والوعظ والكتابة لا يبرحها، من هؤلاء كان صديقي القريب إلي قلبي أبو عماد، كانت قناعته ضرورة الفصل بين العلني والسري أو بين الدعوي والتنظيمي، فالربط بين الاتجاهين يترتب عليه أضرار يتعذر تداركها سواء بالنسبة للجماعة أو للأفراد. خرج أبو عماد من مصر خائفاً يترقب في أجواء الاعتقالات المستمرة والصدام المحتدم، حطت راحلته في إيطاليا وفي كبري مدنها الشهيرة "ميلانو" عايش وعاش مع القيادي البارز الشهيد أنور شعبان تقبله الله حيث قضي نحبه في معارك البلقان الشهيرة دفاعاً عن الإسلام والمسلمين هناك، اقترب أبو عماد من أنور شعبان فقد كانا صنوان يريان في الدعوة حياة عريضة وجهاداً في سبيل الله بالكلمة الماضية القوية والحجة الساطعة عملاً بقول ربنا سبحانه ( وجادلهم بالتي هي أحسن)، عمل معه في إدارة المعهد الثقافي الإسلامي هناك، وهو بفضل الله وحوله وقوته صرح من صروح الدعوة الإسلامية، اختار الله سبحانه أنور شعبان عندما ذهب إلي البوسنة معاضداً ومعاوناً ومناصراً إخوانه هناك والله يختار الشهيد، وبقي أبو عماد وخَلَف شعبان في مهامه وأدار بنجاح باهر ذلكم الصرح الثقافي الإسلامي بميلانو واكتسب خبرات كثيرة، فأصبح غير أبو عماد الذي عرفته في الثمانينيات، طبعاً الأصل كما هو التسامح والحب في الله والإقبال عليه وثغره البسام كما هو حبه للعلم والدعوة كما هو، لكن فنون الإدارة والإعلام والاتصال كلها فنون جديدة رأيته أتقنها. عندما أُختطف أبو عمر المصري بواسطة المخابرات الأمريكية والإيطالية في أوائل عام 2003، بادر أبو عماد للاتصال بي وأبلغني هواجسه وشكوكه إزاء اختطاف أبو عمر رغم أن الوقت كان مبكراً جداً لحسم مسألة الخطف هذه، رأي أبو عماد أن صاحبه كان كثير الكلام والهجوم علي الأمريكان وأنهم - أي الأمريكان - اعتقدوا أن تحت القبة شيخاً يقولها وهو يضحك القهقهة فخطفوه، وسافرت إلي ميلانو لتمثيل أبو عمر المصري في المحاكمة التي انعقدت في محكمة جنايات ميلانو لعملاء المخابرات الأمريكية والإيطالية الذين اختطفوه انتظرني في مطار ميلانو ومعه تونسي شديد الأُلفة عرفت أنه رئيس المعهد الثقافي الذي يديره أبو عماد وهو الدكتور عبد الحميد يتحدث المصرية بطلاقة وكان همزة الوصل بيني وبين الإعلام والمدعي العام الإيطالي، اصطحباني إلي شقة صغيرة قريبة من المعهد علمت أنها التي كان يقيم فيها أبو عمر فتسرب الخوف لقلبي حولها أبو عماد لاستراحة يقيم بها ضيوف المعهد من الشرق والغرب، رأيت كيف يدير هذا الرجل المعهد، كيف يوفق بين الخطابة والوعظ في مسجد المعهد وهو مسجد كبير طالما تمني أبو عماد أن يجد من يتبني شراء مكان جديد لإقامة مسجد بديل، لأن السلطات هناك دائمة التحرش بموقع المعهد الجغرافي الممتاز الاستراتيجي بالنسبة لميلانو وكان يؤم المسجد آلاف المصلين من جنسيات شتي، وهو ماحدث فعلا بعد فترة خلال العام الماضي فرضت عليهم السلطات عدم إقامة صلاة الجمعة في هذا المسجد لأنه يعطل المرور ويزعج الجيران!! وخصصوا لهم أرضاً في مكان ناء يقيمون بها صلاة الجمعة في الخلاء!! كان أبو عماد يعظ ويخطب الجمع ويؤم المصلين في جميع الفروض بالمسجد، ويستقبل يومياً عشرات ومئات المسلمين من جنسيات مختلفة يذهبون للمعهد ما بين طالب إعانة أو طالب وجبة أو طالب فتوي لم ألحظ أنه رد يوماً سائلاً سأله وأعطي كل ذي طلب عطيته، هكذا كان الرجل في مكانه الذي لم يبرحه وأسرني داخله كلما ذهبت إلي هناك لا أبرح غرفته، اللهم تحت ضغوط اصطحبني لنزهة مع بعض إخوانه بالمعهد مرة لم تتكرر!! دخل علينا أول يوم وصلته ميلانو للمرة الأولي المحامي أرناندو سكامبيا الذي يشاركني مهمة تمثيل أبو عمر هناك، وقال: وجدت ضابطا للمخابرات أسفل المعهد علي الناصية بادره قائلاً أنت ذاهب للزيات !! ضحك أبو عماد وضحكنا معه وقال لا تخف "إحنا بنعرف نتفاهم معاهم"، ورغم هذا التفاهم كان الأمن الإيطالي يسعي لتلفيق اتهام يعوقه عن القيام بمهامه الدعوية، لفقت له قضية أبو الهول عام 95 ولمجموعة كبيرة من المصريين والتوانسة والمغاربة غير أن القضية فشلت وحصل الجميع علي حكم بالبراءة، ثم عادوا ولفقوا قضية أخري عام 2003 قضية تنظيم ارهابي جمع فيها عدداً كبيراً من العرب والمسلمين من جنسيات مختلفة ليس فيها حدث ولا دليل غير تحريات الشرطة، استمرت هذه القضية سنوات طويلة تحت المحاكمة، كان يذهب للمحكمة بنفس الطريقة مبتسماً ضاحكاً راضياً ثم يعود ممتناً لله، حتي حُكم عليه مؤخراً بالسجن ثلاث سنوات وثمانية أشهر؟! ولماذا الثمانية أشهر الزيادة لأن تشريعاً سنته حكومة بيرلسكوني يقضي بجعل أي عقوبة أقل من ثلاث سنوات تقضي في البيت وليس في السجن أما أبو عماد فيجب أن يبقي في سجنه المدة كلها. كان أبو عماد معروفاً أيضاً لجهاز الأمن المصري، متواصلاً معهم غير منقطع خصوصاً بعد المبادرة التي آزرها وأيدها.. فهل يستحق أبو عماد كمواطن مصري من الحكومة المصرية أن تبدي دعما لمواطنها علي الأقل أن يقضي فترة العقوبة في بيته؟.. اللهم إني صائم.