منذ أعلن رجل الأعمال الشهير «نجيب ساويرس» عن مكافأته الضخمة والتي تبلغ مليونا من الجنيهات لمن يعيد أو يساهم في إعادة لوحة زهرة الخشخاش التي تمت سرقتها مؤخراًَ من متحف محمود خليل بوسط القاهرة وأنا أفكر وأبحث جيدا في روايات أجاثا كريستي ومغامرات أرسين لوبين وأفلام ألفريد هتشكوك، وأتقمص شخصية المفتش كرومبو ومساعده حمبوزو لاوي بوزه، لعلني أجد الأدلة الدامغة التي تقودني إلي السارق الملعون فأفوز من ساويرس بالمليون، وعندما بدأت بعمل التحريات المبدئية عن الواقعة وعدت إلي صفحات الحوادث اكتشفت أن اللوحة نفسها سرقت من قبل عام 1977 في ظروف غامضة ثم عادت في ظروف أكثر غموضا حتي كانت سرقتها مؤخرا في عز الضهر وبطريقة أكثر سهولة لنثبت بكل فخر أن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين ولكن المصري يلدغ من نفس الجحر عشرات المرات حيث لم تشفع السرقة الأولي في تأمين حقيقي لكل المتاحف والآثار المصرية، وربما كان هذا هو ما دفع الكثيرين ومنهم الأديب الراحل الدكتور يوسف إدريس بعد سنوات من السرقة الأولي إلي الاعتقاد بأن اللوحة التي أعيدت هي لوحة مقلدة، أما اللوحة الأصلية فقد بيعت في إحدي صالات المزادات الكبري بالعاصمة البريطانية لندن. لقد كانت اللوحة المسروقة موجودة في قاعة العرض عند فتح أبواب المتحف صباح السبت 21 أغسطس، ولكنها لم تكن كذلك عند إغلاقه، وقد ثبت أن عدد المترددين علي المتحف في ذلك اليوم 11 فردا بالتمام والكمال فكيف تحدث كارثة بهذا الحجم في ظل وجود هذا العدد الضئيل الذي يمكن لخفير نظامي يقظ متابعته وتأمين المتحف في وجوده دون حاجة إلي كاميرات المراقبة أو أجهزة الإنذار؟ بل إن الكارثة الأعظم أن يقول المسئولون إن السرقة تمت بينما كان رجال الأمن يصلون الظهر فلا تدري هل يشيرون إلي منتهي الالتزام أم إلي منتهي التسيب؟ إنها نفس العقلية التي لم تعد تشعر بأي إحساس بالمسئولية فالعمل عندها ليس إلا تأدية واجب ممل.. حالة عامة أصابت مصر كلها ووباء استشري في جسد الجهاز الإداري للدولة يفسره تبادل الاتهامات بين السيد وزير الثقافة ووكيل وزارته فكل ما يعني كليهما أن يخلي مسئوليته القانونية ويبرئ ساحته.. لقد أعلن الوزير الفنان بعد ساعات قليلة من الجريمة عن القبض علي اللصوص واستعادة اللوحة ثم عاد ليؤكد عدم صحة هذه المعلومات لأتذكر أياما مضت كانت وزارة الداخلية فيها تعلن عن إلقاء القبض علي مرتكبي إحدي العمليات الإرهابية ثم تعود بعد شهور لتعلن القبض علي الجناة الحقيقيين فتنتشر النكتة القائلة إن الداخلية قد ألقت القبض علي الشخص المتسبب في زلزال أكتوبر1992 والمصيبة الحقيقية أنه اعترف. إذا كان البعض يرجع حادثة السرقة الأخيرة إلي آفة الإهمال والتسيب المستوطنة بينما يرجعها البعض الآخر إلي الفساد الذي استفحل استنادا إلي أن سرقة كهذه لا يمكن أن تتم إلا بواسطة أو بمعاونة أحد أو بعض العاملين الحاليين أو السابقين بالمتحف أو أحد دائمي التردد عليه، فبماذا نفسر ما نقرأه كل يوم دون أن يستفزنا أو يستنفر اهتمامنا من القبض علي مواطن ينقب عن الآثار أسفل منزله أو مصرع بعض العمال إثر انهيار المنزل الذي يحفرون أسفله بعد أن أصبحت الآثار تجارة رائجة تكثر الشائعات حولها. عزيزي المهندس نجيب ساويرس.. ربما كانت سرقة لوحة فنية أو قطعة أثرية هي سرقة منطقية يُقدم عليها لصوص محترفون نحصرهم في خانة المجرمين وتطاردهم الأجهزة المعنية في العالم بأسره، لكنها ليست أخطر أبدا من سرقة ثروات مصر وأصولها جهارا نهارا، والاستيلاء علي أراضي الدولة ونهب المال العام بمعرفة لصوص يتم تكريمهم بالأوسمة والنياشين ومكافأتهم بالمناصب أو المقاعد النيابية حتي جعلوا من السرقة في اعتقاد بعضنا فضيلة واجبة ومن الرشوة والتربح فرض عين علي المصريين فبتنا نلعنهم في العلن ولكننا نسر لهم في أنفسنا كثيرا من الحقد والحسد. عفوا يا سيدي فكم أشفق علي مصير ملايينكم إذا رصدتم مليونا منها لكل سرقة كبيرة تتم علي أرض مصر فلا شك أنكم ساعتها ستنضمون لمستحقي معاش السادات إلا إذا كانت عبقريتكم وقراءتكم الثاقبة للأمور تدرك جيدا أن السرقات مهما تزايدت، فالملايين ستظل في الحفظ والصون لأن شيئا من المسروقات أبدا لن يعود، وإذا كانت تحرياتي قد حاولت البحث عن اللصوص فأنا أعلم أنها لن تنجح مطلقا في إعادة اللوحة المسروقة.. تري يا سيدي «هل سأربح المليون»؟!.