حسابات السوق ليست عادلة في كل الأحوال، حتي أحكام الجمهور نفسه أحيانا تكون بعيدة عن الإنصاف، لكن هناك فئة من الفنانين يمتلكون نوعا نادرا من الصبر، يجعلهم يصرون علي التميز دون النظر إلي قواعد السوق، ودون الإلحاح علي المشاهد.. منهم محمد الشقنقيري.. ذلك الذي يمثل منذ خمسة عشر عاما.. فقط يفعل ما عليه.. يؤدي دوره كما هو مطلوب منه ثم يختفي.. قد تضبطه وهو يمثل بمبالغة أو افتعال أحيانا، لكنه هذه المرة قرر أن يقول شيئا آخر.. شيئا أكثر تميزا، وأكثر إنسانية من خلال دور «منسي»، وهو اسم الشخصية التي استطاعت أن تلفت النظر منذ الحلقات الأولي لمسلسل «بره الدنيا» .. هل الشخصية تلفت النظر فقط؟، هي تتجاوز هذه الصفة لتدخل إلي مناطق أخري في ذهن المشاهد.. كان مبكيا تماما عندما كانت دموعه تنزل صمتا، وهو يحمل ابنه الصغير بين يديه ملفوفا في كفن أبيض.. كان يجري به ويؤكد أنه «لسه عايش»، وأنه لن يسمح لأحد بأن يأخذه منه «لأنه مليش غيره في الدنيا» .. أهل البلدة كلهم وراءه، وهو مندهش من جرأتهم علي وصف ابنه ب «الميت» .. إنه ضعف مفرط، أظهره الشقنقيري ببراعة من خلال نظراته التائهة، ونبرة صوته المجروحة.. إنها إنسانية مفرطة لشخص يكتفي من حوله بمناداته «المجنون أهو» .. سوف يهرب منهم خوفا، ويستغيث ببركات كما يفعل دوما، وبعد ذلك ينتقل إلي الشارع في إقامة دائمة.. نجح محمد الشقنقيري في أن يجسد شخصية الرجل الذي يضطر لأن يسكن الشارع مطلقا شعره ولحيته، ومتخذا من الرصيف مأوي، وكل هذا لأنه يمتلك حساسية زائدة جعلته لا يتقبل بسهولة الأوضاع غير العادلة التي يعيشها، أو الظلم الواقع عليه، لذا فهو يفقد عقله تدريجيا، مكتفيا بالشارع. محمد الشقنقيري يقدم دورين آخرين هذا الموسم أحدهما في مسلسل «أغلي من حياتي»، والآخر في مسلسل «اختفاء سعيد مهران»، هو طبعاً يؤديهما من المنطقة الآمنة، لكن الشخصيتين ليس فيهما جديدا، لذا استحقت منا شخصية «منسي» هذه المساحة منفردة، مع التأكيد أن الشقنقيري بلغ من النضج الفني حدا جعلنا ننتظر منه دورا مميزا في أعماله المقبلة، العام الماضي مثلا أدهش الجميع بأدائه لشخصية «باحة» في مسلسل «حدف بحر»، وهو الآن يكرر نجاحه بشخصية تمس الوجدان، وتثير شجنا خاصا في النفس.