في صمت وسكون.. ودون أن يتنبه أو يتذكر أحد ممن خدمهم سنوات عمره الطويل مرت منذ أيام ذكراه الثانية!! لم يذكره أحد حتي من جلسوا علي مقعده!! أعجب أنني أكاد أكون القلم الوحيد الذي تذكره، رغم ما كنا نحمله من ذكريات ظنناها مؤلمة حتي جاء من بعده من جعلنا نترحم عليه.. وعلي ذكرياتنا معه!! كان يملك أكسير الحياة ، لا يعبس ، ولا يكشر، ولا يُقطب حاجبيه، ولا جبينه، ولا يثور، أو يرفع صوته أبداً، مهما كانت خطورة ما يقوله!! إذا حدثك بصوته الرخيم، يتملكك الإحساس، بأنك تقلب صفحات كتاب مطبوع من مائة سنة، لكنه لايزال محتفظاً بجمال الطبع ووضوح الكلمات!! 30 عاماً، لم ألحظ أي تغيير علي صورته الخارجية!! لم تخصم السنوات شعرة من شعره الفضي.. بذلته الكحلية، ونظارته الطبية، ورابطة عنقه الزرقاء، كل شيء فيه كما هو ابتسامته، سكينة ملامحه!! إذا دخل عليه أي شخص كبر أو صغر شأنه الرجل يقف في تواضع ليغلق «أزرار الجاكيت»، وينحني في خجل، وهو يستقبل أو يودع ضيوفه حتي باب مكتبه!! لا أحسبه يوماً، خاطب مخلوقاً، دون أن يسبق اسمه بسيادتك أو حضرتك. ولا يطلب شيئاً دون أن يسبق الطلب بعبارة: لو تفضلت، أو تكرمت، أو أذنت، أو سمحت!! كان الرجل شديد الأدب والتواضع والاحترام للآخرين، حتي إن السفهاء كانوا يشيعون عنه أنه مريض مزمن بمرض الأدب!! وأنه إذا أراد أن يفتح درج مكتبه يستأذنه أولاً. أول لقاء جمع بيني وبينه كان عام 1979، وكنت في الصف الأول الثانوي وكان هو وزيراً للتعليم، رائداً لاتحاد طلاب المدارس الثانوية والمعاهد ودور المعلمين والمعلمات!! وكانت المناسبة هي تنصيب الاتحاد المنتخب، في احتفال أقيم لهذا الغرض بنادي فتيات الزمالك المواجه لمسرح البالون، الذي شيدنا عليه لاحقاً مقر الاتحاد العام الآن. لم تغب ابتسامة الرجل، وهو يستمع لكلمتي، التي كانت محشوة بانتقادات لسياسة تطبيع العلاقات مع إسرائيل، واستقبال شاه إيران، وغيرهما من الأمور التي كان طرحها خروجاً عن المألوف في هذا الوقت. في كلمته علق علي بعض ما ورد في كلمتي باحترام مدهش، حتي إنه لم يذكر اسمي إلا مسبوقاً بعبارة «السيد الأستاذ رئيس الاتحاد»، وكنت أتوقع أن يعلن في كلمته حل الاتحاد!! لكنه قال إن مهمته ليست الوصاية علي الاتحاد المنتخب، بل حمايته!! شجعتني حماية الرجل علي مزيد من الشجاعة، فطبعت كلمتي في إحدي المطابع السرية في صورة رسالة إلي طلاب مصر، فإذ به يطلب حضوري إلي مكتبه فتوقعت أنه سيصب جام غضبه، إلا أنه لم يفعل!! استقبلني ببالغ الاحترام ليبلغني بأنه نسي أن يقول لي إن حدود حمايته وقدرته علي الحماية تقف عند حدود أسوار الاتحاد، وليس خارجه!! وفهمت ظمناً أنني قد أتعرض لمتاعب أمنية بسبب طبع الرسالة وتوزيعها!!. شكرت للرجل كريم استقباله، واعتذاره الرقيق وتحذيره لي بما وقع - فعلاً - فور خروجي من مكتبه!! وعندما كنت أتأهب للخروج من مكتبه، قال لي: من فضلك خذ بعض حبات «الطوفي» من طبق كان علي منضدة تتوسط مكتبه!! وعندما حصلت علي واحدة، طلب مني أن آخذ غيرها، وقال: خذ أيضاً حذرك!! دقائق معدودة وعرفت أن الرجل كان علي حق!! وإن كان تحذيره جاء متأخراً!! وبعد ربع قرن تحديداً عام 2004 كان الرجل رئيساً لمجلس الشوري ورئيساً للجنة الأحزاب، وقد ذهبت إليه مع بعض زملائي أعضاء مجلس الشعب أولهم بطل الغد شيخنا عبدالفتاح الشافعي وأستاذنا عبدالمنعم التونسي ومن بينهم المهندس محمد فريد حسنين والنائب سيف محمود وآخرون لأقدم له أوراق حزب الغد، طالباً تأسيسه. وبعد أن انتهي اللقاء، ونحن في طريق الخروج، قال لي: لو سمحت يمكن أن تأخذ بعض حبات الطوفي!! نظرت للطبق فوجدته وكأنه هو هو!! فقلت له: وهل آخذ حذري أيضاً؟! فقال لي - هامساً - وهل تغير شيء؟! فضحكنا جميعاً، رغم أن أحداً غيري وغيره لم يكن يعرف أصل الحكاية!! مات الدكتور مصطفي كمال حلمي!! ومرت منذ أيام ذكراه الثانية في صمت كما رحل في صمت. فسألت نفسي وهل الحذر يمنع القدر؟!.. رحمه اللَّه.. رحمة واسعة بقدر سعة صدره وأدبه الجم؛ فقد كان ضعيفاً لكنه كان صادقاً وحنوناً. لقد رفض قيام الغد مرات في عهده عندما كان رئيساً للشوري ولجنة الأحزاب، لكنه سرق في عهد غيره!! ما أهمله التاريخ.. لكن اللَّه وحده يمهل ولا يهمل حتي في مجلس الشوري!! غفر الله للدكتور مصطفي كمال حلمي.. وغفر لنا أننا لم نعرف قيمته إلا بعد أن عرفنا ما حدث بعده!!