الاثنين 5 يوليو 2010 بدأت يومي بنبأ رحيل الصديق نصر حامد أبو زيد، استرجعت ذكريات ثلاثين عاما منذ التقيت نصر للمرة الأولي في كلية الآداب سنة 1980. تخرج هو في قسم اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة القاهرة وعين معيدا بالقسم في نفس العام الذي التحقت فيه طالبا بالكلية عام 1972، كنت أسمع عنه من أصدقائي وزملائي لكني لم ألتق به طوال سنوات دراستي، عندما حصل علي الماجستير في دراسات التراث الإسلامي، كنت أتخرج في قسم التاريخ بالكلية في العام نفسه، وظللت سنوات بعيدا عن الكلية، لكنني كنت اسمع من أصدقائي ومن بعض أساتذتي اسم نصر حامد أبوزيد، مشفوعا دائما بالإشادة به والتبوأ له بمكانة بارزة بين المتخصصين في دراسات التراث. أتذكر الآن مواقف عديدة جمعتني به، أتذكر حين التقيت به للمرة الأولي بحجرة قسم اللغة العربية بكلية الآداب في خريف عام 1980، كنت قد التحقت بالكلية مرة أخري لأكمل دراستي في مجال الوثائق، تعرفت عليه من خلال الأستاذ الدكتور عبد المحسن طه بدر، وتوطدت العلاقة بيننا، نتباعد لسفره لكنه يظل دائما قريبا من العقل والروح. أتذكر في عام 1995 في ذروة المحنة التي تعرض لها العقل المصري، عندما كفر البعض نصر أبو زيد ولاحقوه قضائيا مطالبين بالتفريق بينه وبين زوجته بدعوي ارتداده عن الإسلام، نظم حزب التجمع مؤتمرا تضامنيا مع نصر أبو زيد، كان من المفترض أن يلقي فيه كلمة، لكن نفس توقيت المؤتمر تحدد موعد لمناقشة آخر رسالة كان يشرف عليها بقسم اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة القاهرة، فكلفني أن ألقي كلمته في مؤتمر التضامن نيابة عنها، يومها أحسست أن نصر أبو زيد الصديق والأستاذ الذي تعلمت من كتاباته ومن منهجه، قد طوقني بجميل كبير أن يختارني لأحل محله في هذا اليوم. أتذكر مرة أخري في يوليو 2007 وهو بعيد عن الوطن حين طلب مني للمرة الثانية أن ألقي كلمته نيابة عنه في حفل تأبين صديقنا المشترك محمد حاكم، الذي كان قد رحل قبلها بأيام، وكان نصر وقتها غائبا عن مصر. أعود إلي نصر ومسيرته الفكرية والعلمية، لقد تحققت توقعات أساتذة نصر أبو زيد وأصبح واحدا من الأسماء البارزة في مجاله في سنوات قليلة بعد حصوله علي الدكتوراه، كان التأويل والنص محورا لمعظم إنتاجه الفكري الذي قارب خمسة عشر كتابا، غير عشرات من الأبحاث والمقالات العلمية التي نشرها في عديد من الدوريات المتخصصة والمجلات الثقافية العامة، والمحاضرات التي ألقاها في عشرات من المؤتمرات والندوات والحلقات البحثية. ومن أبرز أعماله: «الاتجاه العقلي في التفسير: دراسة في قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة»، و«فلسفة التأويل: دراسة في تأويل القرآن عند محيي الدين بن عربي»، و"أنظمة العلامات في اللغة والأدب والثقافة: مدخل إلي السميوطيقا»، و«مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن»، و«الإمام الشافعي وتأسيس الإيديولوجية الوسطية»، و«نقد الخطاب الديني»، وغيرها وغيرها من الكتب والدراسات. كان نصر حامد أبو زيد علامة من علامات الاستنارة في الفكر العربي المعاصر، ربما يمكن أن نعتبره معتزليا جديدا، حاول باجتهاداته تجديد الخطاب الثقافي العربي والإسلامي، فواجهته قوي الظلام وتصدت لمحاولته بالتكفير والملاحقة القضائية بدلا من المواجهة الفكرية. لقد امتد عطاء نصر أبو زيد الفكري والعلمي علي مدي أكثر من ثلاثين عاما، تخللتها غيابات متعددة عن الوطن. غاب للمرة الأولي عندما سافر إلي اليابان لتدريس اللغة العربية هناك، أضافت تجربة الحياة والعمل في وسط ثقافة مختلفة لرؤيته، وأعطته مجالات جديدة للدراسات المقارنة. غاب للمرة الثانية غيابا طويلا متقطعا عندما بدأت مأساة ملاحقته قضائيا بسبب أفكاره المستنيرة، ملاحقته بقضايا التفريق، التي جاءت في سياق موجة من موجات الإرهاب المادي والمعنوي تصاعدت في مطلع التسعينيات، سقط خلالها الدكتور فرج فودة شهيدا لأفكاره، وتعرض كاتبنا الكبير نجيب محفوظ لمحاولة اغتياله، وكان نصيب نصر حامد أبو زيد حملة التكفير التي انتهت بحكم التفريق بينه وبين زوجته الدكتورة ابتهال سالم في عام 1995، بعدها ظل نصر متنقلا بين مصر وهولندا حيث استقر أستاذا بجامعتها ووجها مشرقا للثقافة العربية في الغرب، حرمت منه جامعته وحرم منه طلابه بسبب التعصب الفكري والظلامية التي تتوحش في بلادنا. وجاء الغياب الأخير برحيله عن عالمنا، لكن من كان له مثل إسهام نصر أبوزيد وإنجازه الفكري لا يغيب أبدا، فستظل أعماله حاضرة تنير الطريق وتثير التفكير وتثري الواقع وتفتح الأفق للمستقبل.