ربما تكثر الكتابات عن القضية الفلسطينية تحديدا مقارنة بمثيلاتها من القضايا السياسية المصيرية، نظرا لتغلغلها داخل النفوس العربية وبزوغها كواحدة من أعقد مشاكل الشرق الأوسط إن لم تكن أعقدها بالفعل، وعادة ما تتمحور الكتابات حول الصراع العربي بصفة عامة والمصري بصفة خاصة مع إسرائيل سواء أثناء الحروب أو أثناء اتفاقية السلام وما بعدها، ولكن قلما أن نجد كتابات تتحدث عن منبع الأزمة، عن النكبة التي حدثت للمجتمع العربي بتغلغل الكيان الصهيوني داخله. عن قرار التقسيم الذي ما زالت آثاره حاضرة إلي يومنا هذا، كل هذا في كتاب (النكبة وحقيقة نصف الدولة) للكاتبة الصحفية سهي علي رجب. والكتاب لا يستند في مجمله إلي معتقدات شعبية ولا مرجعيات دينية، وإنما يرصد واقعا وتاريخا موثقا بكثير من البحث والدأب والجهد، يحاول أن يصل في النهاية إلي الإجابة المحيرة للسؤال.. هل لو عاد الزمن بنا إلي الوراء، وبعد أن رأينا ما آل إليه أمر القضية الفلسطينية الآن، هل سنقبل قرار التقسيم الذي رفضناه من قبل؟ وقرار تقسيم الدولة الفلسطينية هو ذلك القرار الذي اتخذته الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1947م، إثر الثورة الفلسطينية الكبري وبعد انتهاء الانتداب البريطاني علي فلسطين، والذي يقضي بتقسيم فلسطين إلي ثلاثة كيانات جديدة، دولة عربية، ودولة يهودية، ومنطقة ثالثة خاصة تشمل مدينتي القدس وبيت لحم تكون تحت الوصاية الدولية، علي أن يكون لليهود حوالي 55% من أرض فلسطين.. ورغم أنها النسبة الأكبر فإن اليهود اعترضوا عليها وسط تأكيدات من المعارضة الصهيونية فحواها أن الأرض الفلسطينية كلها لليهود وستبقي كذلك للأبد! علي الجانب الآخر، رفضت الدول العربية القرار باعتبار أنه أعطي لليهود 55% من أرض فلسطين بعدما كانوا لا يملكون سوي 7% فقط، كما ازداد خوف العرب من أن تكون خطة التقسيم هي نقطة البداية لاستيلاء اليهود علي المزيد من الأراضي العربية، وهذا ما حدث ورأيناه بالفعل الآن رغم رفض القرار! ونتيجة لهذا الرفض من الجانبين قامت حرب 1948م، بين العرب وإسرائيل، لتميل كفة الفوز ناحية إسرائيل بعد قرار الأممالمتحدة بالتهدئة، وتنهزم قوات مصر في الفالوجا بسبب الأسلحة المتخلفة -الفاسدة كما زعم المؤرخون- التي حصلت عليها من بريطانيا بعكس الأسلحة الحديثة التي أمدت أمريكا إسرائيل بها، ويتم بعدها الاعتراف بإسرائيل رسميا وقبولها كعضو كامل في الأممالمتحدة، ليتحول رفض قرار التقسيم إلي هزيمة منكرة ونكبة حقيقية وتقرير أمر واقع واعتراف بدولة مغتصبة! والكتاب يؤصل معني واضحاً هو أن دفع الدول العربية لرفض قرار التقسيم وإجبارها علي دخول حرب خاسرة بكل المقاييس هو صناعة بريطانية بالأساس، وأن الدول العربية أعطت بريطانيا الفرصة علي طبق من ذهب لضربهم جميعاً وتصفيتهم في مواجهة لا سبيل للنصر فيها، خاصة مع توالي الإمدادات الأمريكية وقرارات الأممالمتحدة الموالية دائما كالعادة. كما يؤكد الكتاب أن رفض قرار التقسيم هو الذي آل بنا إلي ما صرنا إليه، وهو السبب الرئيسي في الحروب والصراعات في المنطقة منذ 1948م، وهذا ما أكده العديد من أبطال حرب 1948م، حين أدلوا بآرائهم المؤكدة للكاتبة علي أن الحياة في فلسطين قبل قرار التقسيم كانت هادئة تماماً بين العرب واليهود ولا فرق بينهم، وأن هذه الوقيعة هي صناعة بريطانية كما ذكرنا! ورغم أن الكتاب في مجمله يطرح الأرقام والتوثيق والشهادات والصور ليصل في النهاية إلي إشكالية قرار التقسيم ما بين القبول والرفض أو ما بين التأييد والندم، فإنه في فحواه ينتصر طوال صفحاته لفكرة الندم علي عدم قبول قرار التقسيم، مدللا علي ذلك بما وصل إليه الصراع العربي - الإسرائيلي الآن وما اغتصبته إسرائيل من الأراضي الفلسطينية، ومدي نفوذها علي البقية الباقية التي تخضع -نظريا فقط - للسلطة الفلسطينية! والذي أخذ الكتاب إلي هذا المنحي هو فصل «شهادات» والذي يتضمن شهادات العديد ممن عاصروا الحرب وقرار التقسيم، والذين أكدوا جميعا اعتقادهم بزوال إسرائيل الآن إذا كانت الأمة العربية قد قبلت قرار التقسيم من البداية، وتجنبت ويلات حروب أكبر من طاقاتها.. ورغم كل هذه التأكيدات من قمم عسكرية وسياسية لا غبار عليها، فإنه يظل سؤال يدور في أرجاء هذا الوطن يبحث عن شط إجابة يريحه: هل كانت الخريطة السياسية ستتغير فعلا إذا كنا قبلنا قرار التقسيم؟ وهل كانت إسرائيل ستتحول فجأة إلي دولة مسالمة ترضي بما قسم لها قرار تقسيم الأممالمتحدة؟ أشك!