يراودني كثيراً مشهد الفنانة سهير البابلي في مسرحية «مدرسة المشاغبين» وهي تسأل «بهجت الأباصيري»: تعرف إيه عن المنطق؟ أتذكر السؤال ويحرضني عقلي علي الإجابة نفسها ، وكأنه كتب علينا أن نعيش في هذا البلد بلا منطق، وكأن هناك شرطًا أساسيًا للمواطنة - التي يتحدثون عنها - هو أن نكون نحن المواطنين مدربين علي استيعاب اللامنطق وقبوله والتعامل معه بمنتهي طيب الخاطر، بل نقبله بروح من التشجيع والمباركة والتصفيق والتهليل له حامدين الله شاكرين أننا نعيش في أمة اللامنطق واللامعقول. كتب علينا أن نبدأ صباح كل يوم جديد بقراءة واقعة جديدة عن اختلاس أو سرقة مدهشة لأحد المسئولين الملتصقين بمقاعدهم حتي الآن، أو لأحدهم الذين قاموا من علي تلك المقاعد بعد أن امتلأت كروشهم بأموال الشعب. أصبح من منطق هذا البلد «اللامنطقي» أن تقرأ كل يوم - وليس يومًا بعد يوم - عن كارثة جديدة: وزير الإسكان يخصص «مليون متر» من أرض مصر لابن خالته في القاهرةالجديدة، ويبدو أن سيادة الوزير- قرر أن يوطد صلة الرحم بأقاربه - وأن يمنح ابن خالته أرضاً قيمتها الفعلية خمسة مليارات جنيه مقابل 241مليونًا فقط... ألم أقل لكم أن صلة الرحم لا تقدر بمال، حتي وإن كان هذا المال مال البلد، ومالك أيها المواطن الذي ربما تعيش وتموت وأنت تحلم بتامين شقة صغيرة لابنك في القاهرةالجديدة أو حتي في عشوائيات فيصل ليتزوج ابنك فيها، وربما لن يمنحك الزمن هذه المنحة المنطقية، ولكن عليك أن تتحلي بالصبر والحكمة وتستمتع باللامنطق الآخر، بل عليك الانتظار لمراقبة ما سيحدث؟ هل سيخرج علينا وزير الإسكان الباشمهندس المغربي عاقداً مؤتمراً صحفياً لتوضيح موقفه ،لأنني اعتقد أنه لو قرأ أي إنسان ذي منطق ما كتب عن الوزير وتخيل نفسك في موقعه، المنطقي أنه لن يستطيع أن يكمل ساعة واحدة في حياته إلا بعد توضيح موقفه أمام الشعب الذي سلب من أرض بلده مليون متر؟ ولوكنت مكان الوزير فكأن الشيء الوحيد المنطقي في هذه الحالة هو «الرحيل» - إن لم تكن لدي وثيقة موثقة بأن كل ما ورد في هذه القصة باطل... ولكن أي منطق هذا الذي أتحدث عنه في بلد لا يحكمه سوي العبث واللامنطق؟ فهنيئاً علي شعب يقرأ كوارثه اليومية اللامنطقية وكأن عجلة التقدم الوحيدة المكتوبة علينا في هذا البلد هي عجلة الكوارث والفساد. اليوم نقرأ عن كارثة أرض وزير الإسكان، وأمس نقرأ عن بطلان عقد مدينتي بحكم صادر من محكمة القضاء الإداري، ومن يومين نقرأ عن سلسلة لا تنتهي من إدانات وزير الإسكان السابق إبراهيم سليمان عن تربحه بتخصيص أراض لرجال أعمال مثل هشام طلعت مصطفي وغيره وإضرار بالمال العام والتعدي علي أراضي الدولة.وغداً نلقاكم في أخبار وكوارث جديدة. هذا غير الأخبار الأخري التي أصبحت المادة المسلية في قراءاتنا اليومية مثل «تورط مسئولين كبار في رشوة المرسيدس والذين لم يفصح عنهم حتي الآن»، وهؤلاء المسئولون غير «المسئولين التانيين بقي» المتورطون في قضية الرشوة الألمانية والذين تقاضوا مبالغ كبيرة جداً علي سبيل الرشوة مقابل إنشاء مشروع كبير في مصر. هذا ناهيك عن ملحمة اللامنطق التي تعيشها عندما تسمع وتقرأ مثلاً عن تقرير الطب الشرعي في قضية مقتل خالد سعيد، الشاب الذي تهشم وجهه وتكسرت عظام فكه لأنه ابتلع لفافة بانجو، فمات باسفكسيا الخنق وأن آثار الإصابات التي ظهرت بالجثة قد تكون بسبب تعرضه للضرب أثناء محاولة السيطرة علي الضحية..لكنها ليست سبب الوفاة... تمام «منتهي المنطق في بلد اللامنطق»!!! طب بلاش.. أين المنطق في قرار رئيس الوزراء ووزيري الصحة والتعليم من منع المستشفيات الحكومية من استقبال المرضي من مراقبي الثانوية العامة واستقبالهم فقط في مستشفيات التأمين الصحي بشرط أن يكونوا حاملين لبطاقة التأمين الصحي، مما نتج عنه وفاة أحد مراقبي الثانوية العامة بهذه الطريقة أثناء الحر الشديد، حيث رفض المستشفي استقباله إلا بعد دفع ألف جنيه، ولأنه لم يكن يملك هذا المبلغ فمات الأستاذ داخل استراحة المدرسين بالمدرسة في الصعيد، وهذه قصة أحد المدرسين الأربعة المتوفين في لجان الثانوية العامة!! أي لامنطق تريد الحديث عنه، تجده عندنا في بلادنا.. سنوات تقضيها الحكومة في الترويج والتزويق لسياسة الخصخصة، وكل من يحاول أن يعترض ويقول إنه بيع لأصول وممتلكات الدولة، يخرج علينا الوزير وأنصاره بكلام كثير مغزاه في النهاية، إننا نحن الشعب مش فاهمين اقتصاد ومش عارفين مصلحتنا فين، وتمر السنوات، مصانع تباع وشركات تخصخص وعمال يضربون ويعتصمون، والحديث عن نهضة وانتعاش اقتصادي لا نري ولا نشهد ملامحه إلا في ازدياد سوء الأوضاع الاقتصادية واحتجاجات عمالية في أغلب محافظات مصر، مجموعات لم تتقاض الحوافز وآخرون تم تسريحهم وآخرون لم يحصلوا علي رواتبهم منذ شهور، وسنوات انقضت في نغمة حكومية بأن الخصخصة هي الحل ومن يهاجم ويستنكر فهو من العقول القديمة التي لا تفهم في منظومة الاقتصاد العالمي الحر... وفجأة... وفي مشهد عابر قد لا ينتبه إليه الملايين يخرج علينا وزير الخصخصة محمود محيي الدين في حوار مع الصحيفة الأمريكية: «وول استريت جورنال» ليصرح بأن نظام الخصخصة بشكل عام لم يلق استحساناً، وأن بيع الشركات الضعيفة إلي جهات استثمارية بغرض إصلاحها لم يكن الطريقة الأفضل، وترتب عليه عواقب اجتماعية وخيمة تمثلت في فصل العمال وتغيير نظام العمل. يا سلااااام. أليس منطقياً أن نسأل - نحن ولا مؤاخذة المواطنين - ومن الذي دفع ثمن هذه السياسات غير المدروسة ومن تحمل العواقب الوخيمة وكيف ننقذ هؤلاء المتضررين؟، أم أن سياسة النظام تعمل بطريقة: حصل إللي حصل وخلاص قدر ولطف إنها جات علي أد كده، إيه إللي جري يعني: كام ألف أسرة اتشردوا، كام بيت اتقفل، كام مائة ألف مصري ضاعت حقوقهم؟.... ياللا ربنا يعوض. المهم أن سياسة الحكومة في الفترة المقبلة ستعمل علي الإصلاح في برنامج اقتصادي جديد مختلف عن نظام الخصخصة!!!! عادي جداً.. أن نقرأ هذا التصريح منقولاً ومكتوبًا بمنتهي البساطة دون مساءلات شعبية صارمة.. لقد تم التلاعب والتهاون في اقتصاد بلد بكامله وبمصائر مجتمع.. هل كان هذا من باب التجريب والاختبار؟ وبالطبع لن تجد أفضل من المصريين للتعامل معهم كفئران تجارب!!... سياسة تطبق وأخري تعدل وأخري يكتشف عدم صلاحيتها وفي النهاية الشعب لا يعرف ولا يفهم ماذا يجري بشأنه وكأنه ليس من شأنه ولا من حقه أن يعرف أي شيء عن مصيره. ألم أقل لكم إننا نعيش في أمة اللامنطق؟ والآن... أيها المواطن الكريم.. «تعرف إيه عن اللامنطق»؟!