لمعرفتي الوثيقة بجميع أطراف القصة أكاد أجزم أن كتاب «أشرف الريدي» المعنون» «جغرافيا المصب» هو ذاته مخطوطة «سعيد جعفر» المعنونة «نهاية المصب». لم تكن» وردة» بالبيت حين ذهب سعيد إلي المطبخ وفتح أنبوبة البوتاجاز وأشعل عود كبريت واكتشافه أن الأنبوبة خالية من الغاز ثم سقوطه علي أرض المطبخ وعود الكبريت المطفأ في يده. هذا ما رددته وردة مراراً مضيفة أن الأزمة واتته وهو وحده يحاول صنع فنجان قهوة. في الفترة الأخيرة لم يكن سعيد يخرج إلا قليلاً بعد أن داهمه الاكتئاب، وتوقفه عن الكتابة نهائيا، وانقطاع صلته بصديقه الأوحد «أشرف الريدي» بالرغم من ذلك لم ينقطع أشرف عن الاتصال بوردة للاطمئنان علي سعيد، وكما يمكن التخمين تكاثرت التليفونات وتواصلت باتجاه شروح طويلة حول خطأ زواجها من سعيد، وإنها قبلت به رغم أصوله المتواضعة وفقره لرقته واختلافه عن كل من قابلتهم، لكنها اكتشفت أن رقته تخفي خلفها لعنة من نوع غريب، هي هوسة بالتفاصيل، تخيل إذا ما وضع كتاباً بطريقة معينة يمكن ألا يواصل قراءته إذا ماتحرك حركة بسيطة، كأنه كان يريد أن يثبت كل شيء حتي يمكنه أن يتنفس ويستمر، قالت: إنها لايمكنها التخلي عنه الآن بعد الجلطات المتعددة، ورفضه إجراء جراحة بمعهد ناصر، بعد أن نجحت في استصدار قرار بالعلاج علي نفقة الدولة. خلافا لسعيد جعفر كان أشرف الريدي ينتمي لأسرة ميسورة، وعند تخرجه في الجامعة كانت الوظيفة بانتظاره بالأمانة العامة لمجلس الشعب، فضلاًً عن شقة بالخليفة المأمون، وقدرته علي تغيير السيارة كل عدة سنوات بموديل أحدث. لاحظت وردة أن أشرف يهتم بسعيد لاهتمامه بها ثم استبعدت هذا الهاجس في زحمة أزمات سعيد الأخيرة، كان سعيد قد انتهي من المخطوطة قبل سنوات من وفاته، لا أعرف ما إن كانت وردة قد قرأتها. كان سعيد يكتب بقلم جاف أسود علي ورق مسطر، كانت الأوراق كأنها امتداد لجسمه وكانت مخطوطته من نوع غريب يختلط فيها الجغرافيا بالتاريخ بالخيالات في مزيج لايمكن الفصل فيه مابين عناصرها، ربما كان سيرة ذاتية متخيلة لسعيد أونبوءة بما سيكون، وربما قصيدة لا تعي ذاتها.أغلب الظن أنها اتبعت نسقا شبيهاً بذاته. لقد قرأ لي سعيد فقرات كاملة من المخطوطة، تنحو أحياناً إلي أن تكون كتابا علميا ثم تغرق في الشعر وتتميز بانقطاعات مفاجئة تترك أثرا كالقطع بالسكين. لم يتمكن سعيد من صنع فنجان القهوة الأخير. جاء اثنان من أقربائه بعد سفر طويل أحدهما خادم مسجد يرتدي جلبابا ًفضفاضاً وطاقية بيضاء والآخر ابن عم سعيد وفي مثل سنه يعمل نجار باب وشباك ويرتدي قميصا رمادياً مقفولاً إلي رقبته وبنطلونا بنياً، كان ينبعث منهما حزن مشوبا بالخجل، وكانا يتكلمان قليلاً وبصوت خفيض. استلما سعيد وبعد أن وضعاه في سيارة نقل الموتي في ظهيرة شديدة الحرارة، ركبت وردة إلي جوار ابن عمه في الكرسي الخلفي، ولحق بالجميع أشرف الريدي بسيارته إلي قرية سعيد البعيدة. كيف وصلت المخطوطة الي يد أشرف هل تعلم وردة بوجود المخطوطة؟ تزوج اشرف من وردة وانتقلت الي شقة الخليفة المأمون. في كتب أشرف الأولي التي مرت دون أن يلحظها أحد كشف واضح حول عدم اهتمامه بالتفاصيل وذهابه مباشرة الي الكليات. الآن هو أحد الكتاب البارزين واعتبر كتابه نقلة نوعية في عالم السرد، يري كثيراً في المنتديات صحبة وردة ويبتسمان أمام كاميرات متعددة. سعيد المهووس بالتفاصيل لايذكره أحد فهو لم ينشر حرفاً واحداً.