في مجمع الأساقفة الكاثوليك المنعقد حول الشرق الأوسط في يونيو 2010 في قبرص، قدمت ورقة عمل من الكنائس الكاثوليكية في الشرق الأوسط، اشتملت علي إجابات الكنائس عن عدة أسئلة، ثم وضعت خلاصة تلك الأسئلة في ورقة العمل. ودارت الورقة حول وضع المسيحيين في البلاد العربية والإسلامية (في الشرق الأوسط) مركزة علي البلاد العربية وتركيا وإيران. وفي تلك الورقة العديد من الهموم والهواجس التي تعيشها الكنيسة أو المسيحيون في منطقة تشهد العديد من التقلبات والاضطرابات. وقد حاولت الورقة وضع صياغة للتحديات الكبري التي تواجه المسيحيين، وحددت أهم تلك التحديات، وفي الورقة العديد من القضايا المهمة، والتي تكشف عن حالة التوتر داخل أقلية عددية، لها جذور تاريخية عميقة في المنطقة. وأول ما يواجه القارئ في تلك الورقة، الخوف المسكون من الرؤية السياسية الإسلامية، بما فيه التخوفات الواضحة من شعار الإسلام هو الحل، وأيضا المخاوف من الأسلمة، وما يتبعه من خوف واضح من عدم تمييز المسلمين بين الدين والسياسة، فالإسلام في العادة هو دين ودولة، كما تقول الورقة. وتنظر الورقة إلي الدول في البلاد العربية والإسلامية، علي أنها دول إسلامية بدرجة أو أخري، وتستثني تركيا التي تبدو دولة علمانية، رغم أن الورقة تري أن الحرية الدينية في تركيا غير كاملة أيضا. وتصوغ الورقة وضع المسيحيين في البلاد العربية والإسلامية، بوصفهم يواجهون تحديًا رئيسيا، وهو الحركات السياسية الإسلامية، وأيضا الدول التي بنيت علي أسس إسلامية، وهي كل الدول التي تنص علي أن دين الدولة الإسلام، وعلي أن الشريعة هي المصدر الرئيسي للتشريع، ويبدو من الورقة أن النظر إلي غالب الدول العربية والإسلامية بوصفها دولاً إسلامية، يخالف الواقع المعاش، حيث إن أغلب تلك الدول علمانية، ولكن موقف ورقة العمل يكشف عن مخاوف من كل شكل إسلامي أو عنوان إسلامي للنظام السياسي، حتي وإن كان مجرد عنوان. ولا يمكن أن نفهم مما تقدم، غير أن هناك تأييدًا كنسيًا كاثوليكيًا للعلمانية. ولكن الورقة تفاجئ القارئ بالحديث عن العلمانية الإيجابية، وهي العلمانية التي تحترم الدين وتحترم دوره، حتي في المجال العام، ولكنها تفصل بين النظام الديني والنظام الزمني، وتلك العلمانية في نظر الكنيسة الكاثوليكية، لا تمنع من قيام الدين بدور في الحياة العامة، ولا تمنع الكنيسة الكاثوليكية من تأكيدها علي دورها في حياة المجتمعات العربية والإسلامية، وأيضا تأكيدها علي دور المسيحي في الحياة العامة، وفي العمل السياسي، والورقة تري أن علي المسيحي ليس الالتزام السياسي فقط، فهو غير كاف، ولكن عليه القيام بالتزامه السياسي من خلال القيم الإنجيلية. فهي تري أن للمسيحي دورًا عامًا في المجتمع، من خلال شهادته في وسط العالم، للقيم الإنجيلية التي يؤمن بها. ومن خلال الشهادة المسيحية في البلاد العربية والإسلامية، تحقق الجماعة المسيحية دورها كشاهد علي القيم الإنجيلية، وتقدم النموذج الإنجيلي في المسئولية الوطنية والسياسية. وبهذا نجد أنفسنا أمام صورة للحضور المسيحي في المجال العام، وهي صورة تري الورقة أنها أساسية لتحقيق دور الجماعة المسيحية، وتحقيق المسئولية الإنجيلية للمسيحي المؤمن. وفي الوقت نفسه، تؤكد الورقة أن بعض الدول الغربية تتبني علمانية تحارب الدين، كما تؤكد الورقة أن الحداثة تحتوي علي جانب إيجابي وجانب سلبي، ومن ذلك الجانب السلبي ما تؤدي له الحداثة من إلحاد ومحاربة للدين، مما يعني أن الرؤية التي تتبناها الورقة لا تنفي المشكلة التي تواجه المسيحية بسبب العلمانية، وبسبب الحداثة، ولكن الورقة تؤكد مرارا علي العلمانية الإيجابية، التي لا تنفي وجود الدين ولا تنفي دور الدين، ولكنها تفصل بين النظام الديني والنظام الزمني، أي السياسي. والغريب أن الورقة مسكونة بهاجس الخوف من الحركة الإسلامية، وفي الوقت نفسه تقدم توصيات حياتية للجماعة المسيحية، تتشابه لحد كبير مع التوصيات والفروض التي تنادي بها الحركات الإسلامية، والتي تربط المواطنة الصالحة بالإيمان، وتربط بين الواجب السياسي والوصية الدينية، وأكثر من هذا، تؤكد الورقة القيم الاجتماعية والثقافية المشتركة بين المسيحي والمسلم، والتي تمثل مجالا للتوافق في الحياة العامة، نابعًَا من الإيمان بالله الواحد، وهنا يظهر جليًا الجانب التطبيقي للإيمان، بوصفه موجها للسلوك العام، هو ما يؤسس للقيم الدينية والثقافية التقليدية، والتي تظهر واضحة في توجهات الورقة والكنيسة الكاثوليكية، كما تظهر في المجتمعات المتدينة، مثل المجتمعات العربية والإسلامية. نقصد من هذا، أن الدور الاجتماعي والسياسي للإنسان المؤمن، كما توضحه الورقة بالنسبة للمسيحي والجماعة المسيحية، يثير الاستغراب عندما يقارن بالخوف من كل فعل إسلامي حركي في المجال العام. وبهذا تقدم لنا الورقة إشكالية الجماعة المسيحية، ليس الكاثوليكية فقط، بل كل الجماعة المسيحية في البلاد العربية والإسلامية، فهي جماعة محافظة متدينة، وهي جماعة تبني حياتها الفردية والجماعية والأسرية علي القيم والقواعد الدينية، وهي جماعة تحافظ علي قداسة الدين، وقدسية العلاقة الأسرية المبنية علي القواعد الدينية. وهي لهذا جماعة مسيحية تعلي من قيمة الدين، وتحمي قداسة الدين في المجال العام، كما تعلي من دور الدين في المجتمع، وتحمل رؤي عن الالتزام الديني، تجعل «دور المؤمن المواطن» غير «المواطن غير المؤمن» وبهذا نجد أن الجماعة المسيحية تحمل رؤية تتجانس مع رؤية الحركة الإسلامية الإصلاحية، ولكنها في الوقت نفسه تحمل هواجس من الحركة الإسلامية الإصلاحية، لا تتناسب مع حجم التجانس بينهما، وتلك هي المشكلة، فالجماعة المسيحية تطالب أحيانا بالعلمانية، وهي ليست بالعلمانية، ظنا منها أن المشروع الإسلامي يؤدي إلي فقدانها لتميزها، أو إلي التقليل من شأنها، أو إلي أسلمتها، ولكن الجماعة المسيحية تتصرف في حياتها بشكل يناقض العلمانية ويتعارض معها، مما يجعل سلوك الجماعة المسيحية والكنيسة، من أجل الحفاظ علي قدسية الدين، وحمايته من حرية الرأي والتعبير، يتناقض مع الدعوة للعلمانية، ونجد أيضا أن اهتمام الكنيسة والجماعة المسيحية بتطبيق الشريعة المسيحية في قضايا الزواج والطلاق، يجعل الدين مرجعية عليا للقانون والدستور، وهو ما يتحقق من خلال مرجعية الشريعة الإسلامية، ولا يتحقق من خلال المرجعية العلمانية، ومن هنا تظهر تلك العلمانية الإيجابية، والتي تبدو كأنها علمانية ناقصة، علمانية تحترم الدين، ولا تقيد حركته، وعلمانية تفصل بين الدين والسياسة، ولكنها لا تفصل بين الدين والمجال العام، والحقيقة أنها علمانية ملتبسة، تعبر عن مشكلة المسيحية في الغرب، والتي تعاني زحف العلمانية علي كل ما هو مقدس، وفي الوقت نفسه لم تبلغ بعد درجة تحدي العلمانية، والتي وصلت لها بعض التيارات المسيحية في أمريكا، ولكن تصدير تلك المشكلة التي تواجه الغرب كما هي إلي البلاد العربية والإسلامية، يؤدي إلي تعقيد المشهد. ففي البلاد العربية والإسلامية، نجد للدين حضورًا واسعًا، بين الجماعة المسلمة كما بين الجماعة المسيحية، ولا يمكن الحد من دور الدين، دون تعريض الجماعة المسلمة والجماعة المسيحية للخطر. وتظهر مشكلة رؤية ورقة العمل الكاثوليكية، عندما تتحدث عن الحكم باسم الله، وهنا تظهر إشكالية السلطة الدينية والحكم بالحق الإلهي المطلق، وهي ليست مشكلة شرقية، وليست مشكلة إسلامية، ومع ذلك يتم نقل المشكلة والبحث عن حل لها علي النمط الغربي، فلا توجد مشكلة في العلاقة بين الدين والدولة، مادامت لا توجد سلطة دينية سياسية مطلقة، أي لا يوجد نموذج الحكم بالحق الإلهي، الذي أسس علي يد الكنيسة الكاثوليكية في الغرب.