حزب حماة وطن يهنئ الرئيس السيسي بذكرى انتصارات حرب أكتوبر    رئيس مجلس الشيوخ يدعو لانتخاب هيئات مكاتب اللجان النوعية    تصل ل9 أيام.. مواعيد الإجازات الرسمية في شهر أكتوبر 2024    وزير الآثار يلتقي نظيره السعودي لمناقشة آليات الترويج السياحي المشترك    بيع 4 قطع أراضٍ بأنشطة مخابز جديدة بالعاشر من رمضان لزيادة الخدمات    رئيس الوزراء يشهد مع نظيره البافارى توقيع إعلان نوايا مشترك بقطاع الكهرباء    وزيرة التخطيط: 5.2% تراجعا فى نشاط الصناعات التحويلية خلال 23/2024    نائب وزير الإسكان يتابع موقف خدمات مياه الشرب والصرف بدمياط لتحسين الجودة    بالصور.. حي العجوزة يشن حملات لرفع الإشغالات وإزالة حالات بناء مخالف بأرض اللواء    باحث سياسي: الاحتلال الإسرائيلي لم يلتفت إلى الأصوات الدولية الدافعة للتهدئة    «القاهرة الإخبارية»: استمرار القصف الإسرائيلي ومحاولات التسلل داخل لبنان    صلاح الأسطورة وليلة سوداء على الريال أبرز عناوين الصحف العالمية    الجيش الإسرائيلي يعلن مقتل القيادي في حركة حماس روحي مشتهى    بزشكيان خلال لقائه وفد حماس: أي خطأ يرتكبه الكيان الصهيوني سيعقبه رد إيراني أقسى    بريطانيا تستأجر رحلات جوية لدعم إجلاء مواطنيها من لبنان    محمد رمضان يحسم أولى صفقاته داخل الأهلي رغم رفض مارسيل كولر    قاهر ريال مدريد يشعل صراعاً بين أرسنال وميلان    الحلوانى: إمام عاشور يحتاج للتركيز داخل الملعب.. وعطية الله صادفه سوء توفيق مع الأهلى    محامي أحمد فتوح يكشف تفاصيل زيارة اللاعب لأسرة ضحيته لتقديم العزاء    مصرع طالب غرقا خلال السباحة فى نهر النيل بالعجوزة    ب4 ملايين جنيه.. «الداخلية»: ضبط 19 كيلو «هيدرو وحشيش» بالإسكندرية ودمياط (تفاصيل)    المنيا: ضبط 124 مخالفة تموينية خلال حملة على المخابز والأسواق بملوي    حبس عامل سرق محتويات من محل عمله بالجمالية 4 أيام    ب367 عبوة ل21 صنف.. ضبط أدوية بيطرية منتهية الصلاحية في حملات تفتيشية بالشرقية    التعليم تعلن موعد اختبار الشهر لصفوف النقل.. وعلاقة الحضور والغياب بالدرجات    محافظ المنيا: ضبط 124 مخالفة تموينية خلال حملة رقابية على المخابز والأسواق    فيلم عنب يحتل المركز الثالث بدور العرض.. حقق 47 ألف جنيه في يوم واحد    توقعات برج القوس اليوم الخميس 3 أكتوبر 2024: الحصول على هدية من الحبيب    معرض صور فلسطين بالدورة ال 40 لمهرجان الإسكندرية السينمائي    مركز الأزهر للفتوى يوضح أنواع صدقة التطوع    الصحة توصى بسرعة الانتهاء من رفع أداء 252 وحدة رعاية أولية قبل نهاية أكتوبر    20 غارة إسرائيلية على الضاحية الجنوبية و6 قتلى بقصف وسط بيروت    بحث سبل التعاون بين وزارتي الصحة والإسكان في المشاريع القومية    مصرع عامل وإصابة 3 أشخاص في حوادث سير بالمنيا    كلية العلوم تعقد اليوم التعريفي لبرنامج الوراثة والمناعة التطبيقية    وزير العدل يشهد مراسم توقيع اتفاقية تسوية منازعة استثمار بين الري والزراعة    4 أزمات تهدد استقرار الإسماعيلي قبل بداية الموسم    «وسائل إعلام إسرائيلية»: إطلاق 10 صواريخ على الأقل من جنوبي لبنان    التابعي: الزمالك سيهزم بيراميدز.. ومهمة الأهلي صعبة ضد سيراميكا    مفاجآت اللحظات الأخيرة في صفقات الزمالك قبل نهاية الميركاتو الصيفي.. 4 قيادات تحسم ملف التدعيمات    الصحة: تشغيل جراحات القلب في الزقازيق وتفعيل أقسام القسطرة ب3 محافظات    نقيب الأطباء: ملتزمون بتوفير فرص التعليم والتدريب لجميع الأطباء في مصر إلى جانب خلق بيئة عمل مناسبة    ألفاظ خارجة.. أستاذ جامعي يخرج عن النص ويسب طلابه في «حقوق المنوفية» (القصة كاملة - فيديو)    روسيا تعلن اعتقال "عميلين" لأوكرانيا على حدود ليتوانيا    إعلان النتيجة النهائية لانتخابات مركز شباب برج البرلس في كفر الشيخ    وزير الثقافة يفتتح الدورة 24 لمهرجان الإسماعيلية الدولي للفنون الشعبية    نجاح عملية استئصال لوزتين لطفلة تعانى من حالة "قلب مفتوح" وضمور بالمخ بسوهاج    ‫ تعرف على جهود معهد وقاية النباتات لحماية المحاصيل الزراعية    «يا ليالي الطرب الجميل هللي علينا».. قناة الحياة تنقل فعاليات مهرجان الموسيقى العربية ال 32 من دار الأوبرا    الفنانة منى جبر تعلن اعتزالها التمثيل نهائياً    حكم الشرع في أخذ مال الزوج دون علمه.. الإفتاء توضح    كيفية إخراج زكاة التجارة.. على المال كله أم الأرباح فقط؟    هانئ مباشر يكتب: غربان الحروب    محافظ الفيوم يُكرّم الحاصلين على كأس العالم لكرة اليد للكراسي المتحركة    حظك اليوم| برج العقرب الخميس 3 أكتوبر.. «يومًا مليئا بالتغييرات المهمة»    فوز مثير ل يوفنتوس على لايبزيج في دوري أبطال أوروبا    تعدد الزوجات حرام.. أزهري يفجر مفاجأة    وزير الصحة الأسبق: هويتنا تعرضت للعبث.. ونحتاج لحفظ الذاكرة الوطنية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.




نشر في الدستور الأصلي يوم 07 - 03 - 2014


هذا شعب عليه أن يفهم عراقته.

نحن نتعامل مستخفِّين متخففين من ثقل الحضارة الذى يحمله المصرى فى الرايحة والجايّة، فننسى أو نتناسى أن هذا التاريخ هو إحدى المشغولات اليدوية للمصريين.

مَن يصدّق أن هذا العجوز المستغنى عن الدنيا ببوقه أو ترومبيته يجلس على المقهى نافثًا شجنه مع حزنه المخلوط باللا مبالاة ويهزّ رأسه هازئًا ممن يهازله ويحوّله إلى نكتة حين يخاطبه:

إزيّك يا عم حسب الله السادس عشر.

مَن يصدق أنه السادس عشر فعلًا؟

مَن يملك فخر معرفة أن شخصًا صار مهنة وأن رجلًا صار علامة وأن فنانًا صار ماركة تجارية وأن علمًا بات معلمًا وأن هناك فعلًا حسب الله الأول الذى توارثه جيل بعد جيل حتى بات لدينا حسب الله السادس والسابع والثامن عشر؟

البعض يعتقد أنها نكتة.

والبعض يظن أن الملوك وحدهم الذين تصحب أسماءهم أرقام تُعد.

لماذا؟

للذين لا يرون فى حسب الله إلا فرقة للزفّة قديمة فات زمنها وتعطّل ذوقها.

للذين يتصوّرون أن حسب الله الثالث عشر هو عبد السلام النابلسى بخفّة ظلّه الاستثنائية يفجّر ضحكنا فى شارع قديم للحب.

لهؤلاء ولأولئك أقول: إن أكثر ما نحتاج إلى أن نعلمه الآن هو مدى جهلنا.

حسب الله ليس طُرفة فى حواديت البهجة وحوانيت الفن.

حسب الله عنوان عراقة شعب وعمق فن ومجد بلد.

هى أقدم فرقة موسيقية فى تاريخنا.

بل لعلّها من أقدم فرق الدنيا.

هل هناك فرقة غيرها عمرها مئة وأربعة وخمسون عامًا؟

لم تتأسّس فقط منذ 154 سنة، بل استمرت 154 سنة.

إذا لم تكن هذه معجزة مصرية، فماذا تكون؟

فرقة حسب الله تأسست عام 1860م على أثر تقاعد الشاويش محمد علِى حسب الله من الخدمة فى فرقة موسيقى سوارى الخديو عباس «ذات الطابع العسكرى» والتى تحوّلت فى ما بعد إلى «فرقة الموسيقى الملكية»، ثم أصبحت الآن «الفرقة السيمفونية للموسيقات العسكرية» التابعة للقوات المسلحة.

يحكى الباحث الدكتور أحمد الحفناوى فى تقرير تاريخى عن فرقة حسب الله، أن هذا الشاويش محمد علِى حسب الله، كان عازفًا متميّزًا على آلة «الكلارينيت»، فقد اتجه إلى تكوين فرقة خاصة بمشاركة بعض زملائه من عازفى آلات النفخ الخشبية وآلات الإيقاع، وهم من العازفين الدارسين بنفس الفرقة، على أيدى أساتذة إيطاليين رفيعى المستوى، حيث كانت أول مدرسة لتعليم العزف بأسس علمية فى مصر، ولا تزال بعض المدوّنات الخاصة بتلك المرحلة، والتى تم إنقاذها من حريق الأوبرا القديمة، كما يقول باحثنا، موجودة الآن بمكتبة دار الأوبرا ومختومة بختم «تياترات خديوية».

إذن هى فرقة تكوَّنت من مجموعة عازفين من خريجى فرقة الجيش بقيادة حسب الله، تعتمد على آلات النفخ والإيقاع، بما يعنى التخصّص من اللحظة الأولى.

المدهش أنها بدأت فرقة بوجاهتها وحداثتها وبراعتها تعزف للأغنياء والأثرياء، ولم تكن فى نشأتها هى تلك الفرقة التى صارت عنوانًا للشعب المنتشى بموسيقاه فى مواجهة نخبة ترقص على أنغام الموسيقى الغربية.

كان منذ النشأة هذا الحسب الله مندوبًا لموسيقى الشعب الزاعقة المبتهجة الصاخبة الراقصة النحاسية النافخة عند طبلات أُذن المتخوّجين ثقافة.

هى إذن أقدم فرقة فى الشرق الأوسط تعزف موسيقى شرقية بآلات غربية.

محمد علِى حسب الله العسكرى الفنان، العصامى الذى حلم بتكوين فرقة، المايسترو الذى جمع رفاقه المتقاعدين وصنع بهم ومعهم كبرياء «الترومبيت» أمام «الساكس». سلام يا جدع أمام الفالس، نشيج الناس أمام نشيد الأوبرا.

صار نجم زمانه وظاهرة مصر الفنية، وكان، يا للمفاجأة، معشوقًا للأميرات فى المجتمعات الراقية بمصر فى ذلك العصر، فقد كان، كما تصفه دراسة أحمد الحفناوى فى كتاب التاريخ والموسيقى، أنيقًا فى ملابسه، معتزًّا بنفسه لدرجة كبيرة، وكان الإقبال عليه كبيرًا، والطلب له ولفرقته ينهال من طبقات المجتمع العلوية، حيث تتنافس على جلب فرقة حسب الله فى حفلاتها وأفراحها، وصار موضع تنافس بين هذه العائلات ومثار أحاديث الصحف والمنتديات والصالونات.

حسب الله صار غنيًّا ثريًّا، جمع من نجاحه الهائل ثروة طائلة.

العسكرى الفنان ومايسترو موسيقى الفقراء سلَّم نفسه للبذخ منبهرًا بهذا النجاح الملتهب تصفيقًا وأموالًا.

حتى إن «كبسولات» حذائه الأسود الطويل كانت تُصنع من الذهب، وهناك رواية بأن الخديو فى لحظة انتشاء بموسيقى حسب الله وطربًا بهذا التدفّق النحاسى لطبوله وإيقاعاته قد أطرى على محمد حسب الله عقب إحدى التشريفات أمام قصر عابدين فى حفل الزفاف الشهير للأميرة «زاهية» مناديًا إياه «حسب الله باشا»، فاعتبر هذا فرمانًا بمنحه درجة الباشاوية.

لكن حسب الله الأول كان الأول فعلًا. لم يتعلَّم من سلف ولم يتحصَّل من خبرة ولم يتسلَّم من سابقين، ولم يكن إلا هذا الفنان التعس بموهبته المنبهر بثروته، فلم يحافظ على نفسه ولم يحفظ ماله ولم يصن ثروته ولم يحصّن نجاحه، فبدّد المال واستخفّ بالعمل ونسى نفسه وفنَّه وتراجع عن دأبه واغترّ بما بلغ وقد بلع طعم القدر وداس على لغم الدنيا.

لم يصن هذه الثروة وأفناها بسفهٍ، فضاقت به الحال وعافَه الناس وتراجعوا عن طلبه وانتهى به الأمر إلى نهاية مأساوية، حيث توفّى مفلسًا بائسًا جالسًا أمام محلّه بشارع محمد علِى فى بدايات القرن الماضى، وتم تكفينه فى «جوَّال».

لكن فرقته لم تمت ولم تفنَ ولم يكفّنها أحد، لا فنًّا ولا جمهورًا ولا تاريخًا ولا خلودًا.

هذه الفرقة التى لم تعزف يومًا بنوتة ولم تملك إلا التلقائية والفطرية وهذا الحس الفنى والحدس الموهوب المخلوط بالوجدان المصرى الشعبى الموسيقى ظلَّت باقية تورِّث كل مايسترو لها لقب حسب الله ورقمه.

كان الإقبال على الفرقة حين بدأت يعود إلى المظهر المبهج بالملابس الحمراء الفاخرة المشابهة لفرق القصر البريطانى، بالإضافة إلى الأصوات الرنانة للآلات المكوّنة للفرقة، وهو الصوت الذى لم تكن تعرفه الأذن المصرية ولم تألفه من قبل كما يصف الباحث أحمد الحفناوى فى دراسته النادرة.

كانت الفرقة تقف فى مدخل الحفل لاستقبال المدعوِّين وتحيتهم بعزف السلامات ذات الطابع الاستنفارى الموحى بتعظيم الشخصيات الحاضرة، وأهمها السلام الخديو الشهير «أفندينا دخل الديوان والعسكر ضربوا له سلام»، ثم تنتقل الفرقة إلى داخل الحفل لإحيائه بمصاحبة الراقصين والمطربين المشاركين، حيث كانت الفرقة أكثر الفرق الموجودة تطوّرًا وبراعة فى الأداء، وظلّت كل هذه السنين على ذات الروح والمنهج والمدرسة، عزف الموسيقى المصرية بآلات النفخ والإيقاع الغربية، ولكن بشخصية خاصة مبدعة خالدة، يأكلها الفقر حينًا والإهمال أحيانًا، يرميها الزمن من رصيف إلى رصيف، يهزأ بها البعض ويستخف بها البعض، تنتقل من الأفراح إلى المآتم، من طهور صبى إلى افتتاح محل، من سرادق إلى مسرح إلى مقطورة، من ميدان إلى شارع إلى حارة إلى زقاق، من ملابس كاكية فخيمة وحمراء قطيفة إلى كاكى مكسّر مزيّت لم يعرف غسيلًا أو مكوى أيامًا، من زراير ذهب إلى نحاس إلى فالصو أصفر، ومع ذلك تظل هذه الوجوه الكادحة مبتسمة وهذه الخدود المتغضنة تمتلئ بهواء النفخ وهذا الموكب البطىء يمشى بكبرياء مَن يسند ظهره على حائط التاريخ.

وهذا حسب الله الذى لا يموت أبدًا بل يحيا رافعًا رأسه، بينما نحتار نحن: أهو الخامس عشر أم السادس عشر؟!

ننشغل نحن برقمه، بينما ينشغل هو بشغله.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.