بقالنا في هذه الحيرة سنين طويلة. أن تذهب للإدلاء بصوتك في انتخابات أنت تعلم يقينًا أنها مزورة ومزيفة، وأن صوتك لن يفرق ولن يُنجِّح أحدًا ولا يُسقط مرشحًا، وأن موظفي الحكومة وضباطها المشرفين علي العملية الانتخابية سينفذون تعليمات السيد مدير الأمن بإنجاح فلان وإسقاط علان! حيرة أن تبدد جهدك ووقتك في الذهاب إلي مسرحية يتم استغفالك والنصب عليك فيها بل إهانتك، وبين أن تعزف عن المشاركة في التصويت فتكون سلبيا لا مباليا وشيطانًا أخرس فتعطي لهؤلاء المزورين فرصة سهلة وراحة بال في تسويد بطاقتك وتزوير صوتك ! مصر علي كده منذ سنين! وبالذات في انتخابات الشوري فالوضع عقيم سقيم، والتزوير فيها تام متمم كامل مكمل ولم يفلت معارض مرة ونجح فيها، بل لم يفلت حتي منشق عن الوطني وعبرها ناجحًا، وتظهر النتائج بنجاح ساحق للحزب الوطني مع ترك متعمد ومتفق عليه لفتات من المقاعد لأسماء معلومة ومرتب نجاحها مع منع أي فرصة لنجاح أي مرشح للإخوان المسلمين ! ما العمل إذن؟ هل مقاطعة الانتخابات من حيث الترشيح والتصويت حل؟ المقاطعة عمل سلبي انسحابي غير مؤثر، حيث ينجح النظام غالبًا في جذب البعض المحسوب علي المعارضة أو المتشبهين بالمعارضة فيفسد علي المعارضة الحقيقية جماعية المقاطعة وإحكامها فتفقد تأثرها وقوتها خصوصًا أن المقاطعة في الأساس تهدف لفضح النظام وتعريته أمام الداخل والخارج، ونظامنا في الحقيقة لا تفرق معه تعرية ولا يؤثر فيه فضح لا داخل ولا خارج، خصوصًا أن الخارج مزنوق في النظام ويتحالف معه في تنفيذ أهدافه وأغراضه ويتغاضي عن ديكتاتوريته بل يحميها مقابل ضمانة استمرار خدمات ما بعد البيع !أما الداخل فهو دائخ ! إذن المقاطعة تفشل بالضرورة. ثم إن المشاركة كذلك لا تجدي نفعًا، فالانتخابات المزورة يتسرب منها أحيانا عن عمد أو عن تسلية أو تسرية أو تمثيلية أو إهمال عدد من المعارضين والمستقلين، لكن مهما كان عددهم فإنهم لا يفعلون شيئًا ولا يؤثرون في صناعة القرار ولا يعطلون تشريعًا ولا يشكلون ضغطًا، بل هم مجرد ضمائر تصيح في قاعة تنتهي نقاشاتها بالتصفيق، وتمرر الحكومة كل ما تريد تحت سمع وبصر هؤلاء النواب، بل إنهم في الحقيقة مادة دعائية وتجميلية للنظام يتباهي بوجودهم أمام الغرب والأمريكان ثم هو كذلك يستعمل وجودهم في التنفيث والتنفيس عن ضغوط المواطنين ! إنها بالفعل حلقة خانقة ومتاهة مرهقة. لكن لو سألتني رأيي، فأنا مع المشاركة ودليلي هو الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود. كان ابن مسعود جسدًا نحيلاً ضئيلاًَ لا يخيف أحدًا وبلا عزوة ولا عائلة ولا قبيلة ترهب شخصًا، لكن خلال سنوات الإسلام الأولي في مكة حيث صناديد قريش من المشركين والكفرة يسيطرون علي كل خرم في البلد ويملكون كل متر فيه، أصر عبدالله بن مسعود وصمم علي أن يذهب إلي حضن الكعبة ويقرأ القرآن لأول مرة فيها وحده بصوته وسط مئات الكفار ليعلو لأول مرة صوت القرآن في الوجود. كان يعرف أنهم سيضربونه ويعتدون عليه وسيمنعونه ويكممونه ولن يسمحوا لأنفسهم حتي بسماع صوته ...وقد حدث ذلك كله. لكنه تحداهم. مجرد التحدي إعلان للحق وانتصار للمستقبل. وقد كان!