كان "يتمزمز" مذاق الموت مزمزة، يأمر زبانيته أن يقتلوا على مهل، ينتشي طربًا بصراخ ضحاياه، ولمّا يسمع حشرجة خروج الأرواح، من الحلاقيم، ويرى ارتسام علامات الفزع في العيون الشاخصة إلى اللاشيء، يردد عبارته الأثيرة: "لا أرتاح إلا بين الموتى". "كاليوجلا" الطاغية الأكثر دموية في تاريخ البشرية، والإمبراطور الذي وجد أن المجاعات لم تضرب "روما" في عهده، كما جاراتها من المدن الفقيرة، فأغلق صوامع الغلال، حتى "يتفرّج" على "مجاعة"، وبعدما سقط الآلاف أسدل الستار.. فتح الصوامع مجددًا، فقد انتهت فصول المسرحية!
كثيرون كتبوا "كاليوجلا" تاريخًا وأدبًا وتحليلا نفسيًا، ومن أشهرهم الأديب الفرنسي الكبير، ألبير كامو، الذي صوّر الطاغية مشوها وجدانه، سيكوباتيًا يكره التفكير، نرجسيًا متضخم الذات، يعتقد بأنه رحمة السماء وعقابها في آن، وذلك في مسرحية تُرجمت إلى كل لغات العالم، وتطرح سؤالا يباغت العقل: كيف يصبح الإنسان ديكتاتورا؟
سؤال مثير موجع، يغري بالتفكير، وينقسم علماء النفس حوله إلى قائل بوجود عوامل وراثية تحقيقًا، وإلى آخر يعتقد بوجود عوامل تتصل بالتنشئة الاجتماعية، وفي الحالتين لم ينكر العلماء دور نخبة الديكتاتور من حاملي الدفوف والمباخر، مدبجي المدائح، مدمني تقبيل الأقدام ولعق الأحذية.
رواية "شيء من الخوف" لثروت أباظة "تُفصَّص" السمات الشخصية للديكتاتور "عتريس"، الذي يلاحقه تراث أسلافه الدموي، فيتحول من فتى حالم رومانسي رقيق، يشغف بطيور الحمام الوادعة، إلى قاتل أهوج يصوب النيران إلى الصدور مباشرة، كلما هاجت نوازع الشر في نفسه، وهو يقهقه متلذذًا ولسان حاله يردد مقولة "كاليوجلا": لا أرتاح إلا بين الموتى.
ومن المفارقات اللافتة، أن الأدب العربي إجمالا، لم يتطرق إلى الديكتاتور إلا تلميحًا وترميزًا، وهو أمر يفسره نقاد بأن المثقف العربي ما أن يدخل حظائر السلاطين، حتى يرمي وراء ظهره القيم التي طالما تشدق بها.. ولم لا؟ فقد شبع بعد جوع، وأصبح من حاملي بطاقات السحب الإلكتروني، بعدما كان يفر من البقال و"الدخاخني" فراره من الأسد!
حتى "شيء من الخوف"، لم تكن مكتوبة على هذا النحو، فلها قصة عجيبة، فقد طلب حسين كمال، لما أراد إخراجها، إلى السيناريست صبري عزت، والخال عبدالرحمن الأبنودي، كتابة السيناريو والأغاني، فقررا قلب الطاولة على سليل العائلة الأباظية، فمررا رسالة لم يقصدها مما حدا به إلى التبرؤ من الفيلم، قبلما يتباهى بعد رحيل عبدالناصر بأن روايته كانت "الصيحة الوحيدة" في وجه "الديكتاتورية"، وكان طبيعيًا أن يحصل على المقابل: حقيبة وزارة الثقافة في عهد السادات!
أدباء أمريكا اللاتينية كانوا أحسن بلاءً في المعركة ضد المستبدين، فرواية "أنا الأعلى" لأديب بارجواي "أوجيستو باستوس" تجمع توليفة قلما تتكرر، وحبكة درامية استثنائية غير مسبوقة، فالطاغية في الرواية قرر إملاء مذكراته على سكرتيره، بادئًا بعبارة "أنا الأعلى"، ومن ثم أخذ يزهو بسيرته الذاتية، وكيف حرر البلاد من الاستعمار؟ وكم ضحى من أجل إسعاد الشعب؟.. حتى انتهي إلى أن وصف المحكومين بالمجانين لأنهم لم يقدروه، وبعدئذٍ أوصى بفصل رأسه عن جسده بعدما يموت، ثم تعليقها ثلاثة أيام بالمدينة حتى يراها الجميع.
هل أراد الديكتاتور أن يتطهر بعد موته؟
سؤال تركته الرواية مفتوحا، كما لم تذكر شيئًا عن مصير الوصية، عكس "شيء من الخوف" سينمائيا لا روائيا.. حيث سجل الفيلم المشهد الأخير من حياة "عتريس"، بتخلي زبانيته عنه بعدما نفخت "فؤادة" في رماد صدور "سكان القرية- الشعب" فتوّهج اللهيب، على وقع موسيقى العبقري بليغ حمدي، والحناجر تهتف: باطل.. باطل.
نهاية تشبه كثيرًا نهاية "كاليجولا"، فالديكتاتور كان بلغ منتهى الجبروت وذروة التكبر، حتى أنه اقتحم ذات صباح، مجلس الشيوخ على صهوة حصانه، فهلل "نواب الشعب" ترحيبا، باستثناء عضو يدعى "براكوس".. فقال الطاغية بامتعاض: لا أدري لماذا يبدي العضو المحترم تبرمه من وجود حصاني رغم أنه أكثر أهمية منه؟ أليس يكفي أنه يحملني؟
وكعادة "بهاليل كل سلطان" هلل النواب وصفقوا مجددًا.. فانتفخ "كاليجولا" زهوًا، ودعاهم إلى مأدبة ببلاطه، لأنه قرر تعيين الحصان عضوا بمجلسهم الموقر!
وعلى المائدة، قدم الإمبراطور لنخبته "المنتخبة" التبن والشعير قائلا: "منحتكم شرف تذوق طعام حصاني"، فشرعوا يملأون أفواههم، وعلى شفاههم ترتسم ابتسامات الخنوع الصفراء المتنطعة، إلا "براكوس" الذي رفض مجددًا ابتلاع المهانة مثلما "فؤادة في شيء من الخوف"، فخلع حذاءه وألقى به في وجه "كاليوجلا"، فاندلعت معركة، وكانت المفاجآة أن انسحب الحرّاس، تاركين "الطاغية" يتلقى صدره العاري الطعنات واحدةً تلو الأخرى، حتى سقط مضرجًا بدمائه، لكي يرتاح بين الموتى.. كما كان يردد دائمًا.