في أواخر ثمانينيات القرن الماضي وبينما شعوب أوروبا الشرقية تنتفض وتهدم حاجز الخوف ليبلغ المشهد ذروته في انهيار سور برلين, كان احد المثقفين المصريين الذي درس العلوم السياسية بلندن يهمس في أذن الرئيس مبارك, ليطمئنه بحكم عمله الي جواره مسئولا سياسيا عن المعلومات, بأن المصريين شعب لا يثور وامتدت حكمة ذلك المثقف السياسي الي خارج اسوار قصر الرئاسة ليمنهج تلك الفكرة في محاضرة شهيرة وقتها بالجامعة الامريكية بالقاهرة. في المقابل كان الاديب المصري في الستينيات من نفس القرن يأبي الا ان يسجل شهادة احترام للشعب المصري, فكتب ثروت اباظة رائعته شيء من الخوف التي تعد احد اهم معالم الطريق للسينما المصرية حيث بينت بذور التمرد والثورة الكامنة في نفس الانسان المصري وأوضحت ان القدرات الهائلة للصبر لها وقت للنفاد. وقد انتصر الشعب المصري بثورته الي خيال الاديب في مواجهة واقعية السياسي المزعومة. فالاديب استعرض ثلاثة فواعل مهمة وضرورية للثورة: الظلم المستمر المتصاعد, والشرارة اللازمة لاشتعال الثورة, والدفء بين ابناء الثورة. وقد تفاعلت تلك الفواعل الثلاثة في خيال اديب شيء من الخوف وتكاد تتطابق في الثورة المصرية رغم تباعد السنوات بين الرواية والحدث بنحو اربعين عاما او يزيد. وفي حين لعب خيال الاديب دورا كبيرا في رسم نهاية منطقية لثورة اهالي قرية الدهاشنة ضد الطاغية عتريس والتي اجبرت بقية افراد عصابة عتريس علي الرحيل هروبا تحت مظلة الجملة المأثورة لاحد افراد تلك العصابة اسماعيل العصفوري: الدهاشنة الان لاتسعنا معا, اما نحن او هم. فخرجت العصابة تحت جنح الليل فارة من القرية الثائر اهلها, تاركين عتريس يواجه مصير العزلة في بيته المغلق عليه حرقا. والاديب في تلك الحالة يري بحسه الفني الابداعي ان لامكان لبقية الزمرة السارقة القاتلة الناهبة لثروات الدهاشنة, لا مكان لها علي ارض الدهاشنة تتنفس هواءها الذي لوثته, وتشرب من مياه امتزجت بدماء الشهداء, وتطأ تراب شهد انين المعذبين بالسياط, وان تسلك طرقات طالما اهدرت فيها كرامة البشر. لامكان لعصابة عتريس وفق خيال الاديب في ارض الدهاشنة لذلك كان اسماعيل العصفوري منطقيا وواقعيا بل واكثر احتراما وموضوعية في رحيله هربا من غضب الدهاشنة مسجلا كلمة للتاريخ الدهاشنة لم تعد تسعنا معا.. العصابة او الشعب, في حين يتبجح السياسي بواقعيته ويظهر في الاعلام ويظن ان بعضا من الرتوش يمكن ان تسمح لبقايا العصابة بالاستمرار فيخدمة السيد الجديد بل والحديث بتبتل العابدين في محراب الحرية والثورة. وهو امر يثير المفارقة الواضحة بين نهاية الرواية ونهاية الواقعية السياسية. فالأديب بخياله والسياسي بواقعيته يتصارعان علي ساحة السياسة المصرية المتفاعلة بثورتها الطاهرة. فلأي منهما تنتصر الثورة بشبابها المتدفق وعنفوانها الهادر؟ إن خروج المصريين مجددا يوم الجمعة يؤكد ان الثورة المصرية انتصرت لخيال الاديب بمنطقيته وبموضوعيته, في مواجهة واقعية السياسي بمهارته واحترافيته التي عاش بهما اكثر من ثلاثين عاما. المصريون مصرون علي تطهير الدهاشنة من كل عصابة عتريس وأولهم اسماعيل العصفوري.