أسعار اللحوم والأسماك اليوم 27 يونيو    الأرصاد الجوية تكشف موعد انخفاض درجات الحرارة    ليه التزم بنظام غذائي صحي؟.. فوائد ممارسة العادات الصحية    إصابة فلسطينيين اثنين برصاص قوات الاحتلال خلال اقتحام مخيم الدهيشة جنوب بيت لحم    غارة إسرائيلية تستهدف مبنى شمال مدينة النبطية في عمق الجنوب اللبناني    يورو 2024| «يلماز» رجل مباراة تركيا والتشيك    7 معلومات عن أولى صفقات الأهلي الجديدة.. من هو يوسف أيمن؟    والدة لاعب حرس الحدود تتصدر التريند.. ماذا فعلت في أرض الملعب؟    هانئ مباشر يكتب: تصحيح المسار    إعلان نتيجة الدبلومات الفنية الشهر المقبل.. الامتحانات تنتهي 28 يونيو    مسرحية «ملك والشاطر» تتصدر تريند موقع «إكس»    دعاء الاستيقاظ من النوم فجأة.. كنز نبوي منقول عن الرسول احرص عليه    جالانت: لا نريد حربا ضد حزب الله لكن بإمكاننا إعادة لبنان إلى "العصر الحجري"    إصابة محمد شبانة بوعكة صحية حادة على الهواء    موظفو وزارة الخارجية الإسرائيلية يهددون بإغلاق السفارات    فولكس ڤاجن تطلق Golf GTI المحدثة    فى واقعة أغرب من الخيال .. حلم الابنة قاد رجال المباحث إلى جثة الأب المقتول    بعد اجتماع اللجنة المرتقب.. هل هناك زيادة متوقعة في تسعير البنزين؟    حظك اليوم| برج الأسد 27 يونيو.. «جاذبيتك تتألق بشكل مشرق»    حظك اليوم| برج الجدي الخميس27 يونيو.. «وقت مناسب للمشاريع الطويلة»    جيهان خليل تعلن عن موعد عرض مسلسل "حرب نفسية"    حظك اليوم| برج العذراء الخميس 27 يونيو.. «يوما ممتازا للكتابة والتفاعلات الإجتماعية»    17 شرطا للحصول على شقق الإسكان التعاوني الجديدة في السويس.. اعرفها    سموحة يهنئ حرس الحدود بالصعود للدوري الممتاز    مجموعة من الطُرق يمكن استخدامها ل خفض حرارة جسم المريض    الكشف على 1230 مواطنا في قافلة طبية ضمن «حياة كريمة» بكفر الشيخ    أشلاء بشرية داخل القمامة تثير الذعر بأوسيم.. وفريق بحث لحل اللغز    "الوطنية للإعلام" تعلن ترشيد استهلاك الكهرباء في كافة منشآتها    منير فخري: البرادعي طالب بالإفراج عن الكتاتني مقابل تخفيض عدد المتظاهرين    هل يوجد شبهة ربا فى شراء شقق الإسكان الاجتماعي؟ أمين الفتوى يجيب    إبراهيم عيسى: أزمة الكهرباء يترتب عليها إغلاق المصانع وتعطل الأعمال وتوقف التصدير    سيدة تقتحم صلاة جنازة بالفيوم وتمنع دفن الجثمان لهذا السبب (فيديو)    محاكمة مصرفيين في موناكو بسبب التغافل عن معاملات مالية كبرى    العمر المناسب لتلقي تطعيم التهاب الكبدي أ    نوفو نورديسك تتحمل خسارة بقيمة 820 مليون دولار بسبب فشل دواء القلب    رئيس قضايا الدولة يُكرم أعضاء الهيئة الذين اكتمل عطاؤهم    الجيش البوليفي يحاول اقتحام مقر الحكومة في انقلاب محتمل    ملخص وأهداف مباراة جورجيا ضد البرتغال 2-0 فى يورو 2024    هيئة الدواء المصرية تستقبل وفد الشعبة العامة للأدوية باتحاد الغرف التجارية    بيان مهم بشأن حالة الطقس اليوم.. والأرصاد الجوية تكشف موعد انتهاء الموجة الحارة    الدفاع السورية: استشهاد شخصين وإصابة آخرين جراء قصف إسرائيلى للجولان    إجراء جديد من جيش الاحتلال يزيد التوتر مع لبنان    وزراء سابقون وشخصيات عامة في عزاء رجل الأعمال عنان الجلالي - صور    لإنهاء أزمة انقطاع الإنترنت.. توصيل 4000 خط تليفون جديد بالجيزة (تفاصيل)    بسبب عطل فني.. توقف تسجيل الشحنات ينذر بكارثة جديدة لقطاع السيارات    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه المصري اليوم الخميس 27 يونيو 2024 في البنوك (التحديث الأخير)    الحكومة تحذر من عودة العشوائية لجزيرة الوراق: التصدى بحسم    "ما علاقة هنيدي وعز؟"..تركي آل الشيخ يعلق على ظهور كريم عبدالعزيز مع عمالقة الملاكمة    خالد الغندور: «مانشيت» مجلة الأهلي يزيد التعصب بين جماهير الكرة    ميدو: الزمالك «بعبع» ويعرف يكسب ب«نص رجل»    انقطاع الكهرباء عرض مستمر.. ومواطنون: «الأجهزة باظت»    مدير مكتبة الإسكندرية: استقبلنا 1500 طالب بالثانوية العامة للمذاكرة بالمجان    عباس شراقي: المسئولون بإثيوبيا أكدوا أن ملء سد النهضة أصبح خارج المفاوضات    حدث بالفن | ورطة شيرين وأزمة "شنطة" هاجر أحمد وموقف محرج لفنانة شهيرة    تعرف على سبب توقف عرض "الحلم حلاوة" على مسرح متروبول    سماجة وثقل دم.. خالد الجندي يعلق على برامج المقالب - فيديو    حكم استرداد تكاليف الخطوبة عند فسخها.. أمين الفتوى يوضح بالفيديو    هل يجوز الرجوع بعد الطلاق الثالث دون محلل؟.. «الإفتاء» تحسم الجدل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد سعيد محفوظ يكتب :دين أمريكي جديد يدعي أن وحيه نزل بالهيروغليفية
نشر في الدستور الأصلي يوم 21 - 05 - 2010

دون أن يهتز إيماني بالله طرفة عين، قضيت ثلاثة أشهر في دهاليز دين جديد.. دينٍ أمريكي ينتشر في عالمنا في سرية وصمت.. ينفق أتباعه مليارات الدولارات علي التبشير به.. يوّرث النبوة فيه كل عشر سنوات تقريباً لقطب نافذ في الاقتصاد أو السياسة، ويمنحه بموجبها (قوة ومفاتيح الكهنوت).. دينٍ يقول إن لإلهنا سبحانه وتعالي زوجة وأبناء في السماء علي هيئة بشر، وإن جائزة الصالحين هي التحول إلي آلهة بجوار ربهم الأعظم في حياة الخلود، حيث يتساوي العبد والرب في القوة والتمكن والمعجزات.. دينٍ يزعم أن كتابه المقدس وُجد قبل نحو قرنين من الزمان بنص هيروغليفي علي صفائح ذهبية في غابة بالولايات المتحدة، دفنه فيها أنبياؤه الأوائل بعد هجرتهم من القدس ومصر قبل الميلاد بستمائة عام.
يبحث هذا الدين بيننا عن أرضه الموعودة.. يحلم أتباعه بالعودة إليها والاستيطان فيها علي غرار إسرائيل، يفتشون عنها بدأب وحذر، بينما لا نراهم نحن ولا نلتفت إليهم، لا نشعر بهم ولا نكترث لهم، مشغولون ومنهمكون في قضايانا وصراعاتنا وضغوطنا الدنيوية.. لكن أتباع هذا الدين الجديد لا يكِلّون.. يدخلون كل بيت، ويحتوون كل متردد بشأن دينه، يغوونه بكل الوسائل والمغريات، ويشملونه بعاطفة مشروطة لا نهائية.. أولويتهم الفقراء والمستضعفون وما أكثرهم.. يعطونهم الأمان وييسرون لهم السفر والمسكن والوظيفة والدخل الوفير.. سيقصدون بيتك ويطرقون بابك ذات صباح، ستراهم في كامل زينتهم، وعلي صدرهم شارة نحاسية باسم كنيستهم، وعلي وجههم ابتسامة رقيقة تخفي وراءها دعوة لعالم سري غامض.. لا يعرف حدوده وخفاياه إلا من يتسلل إليه مثلي بقلبٍ مؤمنٍ وموحدٍ بالله، ليعود منه بالحقيقة والسر.
عرفت بأمر هذا الدين في لندن مهد الغرائب.. أيقظتني في صباح مشمس علي غير العادة طرقاتٌ علي باب البيت.. كان اليوم هو عطلة رأس السنة.. فتحتُ وأنا أقاوم النعاس، فوجدت شابيْن متأنقيْن.. ظننت من الوهلة الأولي أنهما مبشران مسيحيان ممن اعتدت علي زياراتهم الأسبوعية وتلقي مطبوعاتهم بل وقراءتها أحياناً بعناية واهتمام، خاصة بعد أن لاحظتُ اسم كنيستهما المحفور علي شارة معلقة علي صدر كل منهما: كنيسة يسوع المسيح لقديسي الأيام الأخيرة.. استقبلتُهما بابتسامةِ أخُوّة، وأخبرتهما بهدوء أنني مسلم.. تصورتُ أن ذلك سيوفر عليهما مشقة الشرح ويريحني من عناء الاستماع.. لكن ذلك بالتحديد ما كانا يبحثان عنه... قبل أن أشرع في وداعهما وإغلاق الباب سألني أحدهما بإنجليزيته ذات اللهجة الإيطالية الواضحة إذا كنتُ أمانع في بعض الدردشة حول الدين الذي يبشران به.. ثم أمدني بنشرة زاهية الألوان يتصدرها بالبنط العريض عنوانٌ يقول: المورمون وكلمة الحكمة للنبي جوزيف سميث.
استوقفتني هذه المفردات الجديدة والدخيلة علي ثقافتي الواسعة نسبياً في الدين المسيحي بحكم اهتمامي بالمقارنة بين الأديان.. استيقظ فضولي وانتبهَت أحاسيسي.. وسمحت لهم بعد لحظة تفكير بالدخول.
شابان يتجاوز عمرهما العشرين بقليل، أحدهما إيطالي من روما، والآخر أمريكي من يوتاه.. ويوتاه هي الولاية الأمريكية التي شهدَت وفقاً لروايتهما مولد هذا الدين الجديد.. خلع الشابان حذاءيهما علي عتبة الباب، ودخلا إلي غرفة الاستقبال مطرقي الرأس حياء وذوقاً.. بدأ الشاب الإيطالي حديثه بسؤال بدا لي تقليدياً: هل تؤمن بالأنبياء؟ قلت إن ديني بالطبع يؤمن بكل الرسل التي ورد ذكرها في القرآن، كما يؤمن بالإنجيل والتوراة إذا لم يتعرضا للتحريف.. نظر إليّ المبشر الأمريكي ملياً، ثم قال: ماذا تفعل لو علمتَ بأن هناك نبيًا يعيش بيننا اليوم؟ قلت له مازحاً: لو كنا في عصر الأنبياء لتمنيت أن أكون واحداً منهم، أحمل عبء الإصلاح وتطبيق العدل! تصنّع الشابان الضحك، ثم عاد الإيطاليُ إلي جديته، وقال: إن نبي هذا العصر القديس توماس مونسون هو الخليفة الخامس عشر لنبي المورمون جوزيف سميث.
القصة كما يرويها المبشران الصغيران نقلاً وحيهما المزعوم بدأت في مساء اليوم الحادي والعشرين من سبتمبر عام 1823، عندما كان الصبي الأمريكي جوزيف سميث يصلي لله، وفجأة لمح نوراً يتجلي في غرفته، ثم ظهر شخص بالقرب من فراشه ماثلاً في الفضاء لا تلمس قدماه الأرض، وكان مُحَيّاه كما يروي جوزيف سميث نفسه خاطفاً للأبصار كالبرق.. نادي هذا الشخص «النوراني» جوزيف سميث باسمه، وأنبأه بأنه رسول من الله اسمه موروني، وأن الله قد أعد سميث لمهمة عليه إنجازها، وأن جميع الأمم ستتداول اسمه بالخير والشر.. ثم أخبره بوجود كتاب منقوش علي صفائح ذهبية، يروي تاريخ السكان القدماء للقارة الأمريكية ويوضح أصلهم، كما يحتوي علي ما يسمي الإنجيل الأبدي الذي علّمه الله لهؤلاء السكان القدماء.. يقول جوزيف سميث في شهادته إنه رأي أثناء ذلك فيما يشبه الرؤيا مقر الصفائح بالقرب من قرية مانشستر التابعة لمقاطعة أونتاريو بولاية نيويورك، في الجهة الغربية من تل عظيم، حيث تستقر تلك الصفائح داخل صندوق حجري تحت صخرة ضخمة.
في اليوم نفسه من شهر سبتمبر بعد أربع سنوات تسلم جوزيف سميث من ذلك الرسول السماوي المزعوم صفائح الدين الجديد، وتلقي منه ما يقول إنها توجيهات تتعلق بما ينوي الرب أن يفعله بالبشر وبالطريقة التي سيدير بها مملكته في الأيام الأخيرة.
وفقاً لرواية المبشريْن فإن جوزيف سميث تعرض لاضطهادٍ في قريته للاستيلاء منه علي هذه الصفائح الأثرية، لكنه نجح في الحفاظ عليها، إلي أن ترجمها من لغتها الهيروغليفية الأصلية إلي اللغات الحديثة بموهبة الله وقوته، ثم نشرها للعالم في عام 1830 تحت اسم (كتاب مورمون).
توقف الشابان عن الحديث، فيما كنت أحاول جاهداً ابتلاع قصتهما.. ثم فتح المبشر الإيطالي حقيبته بحماس، وناولني منها كتاب المورمون بطبعته الفاخرة، ومكتوب علي غلافه الأزرق بأحرف مذهّبة غائرة: شهادة ثانية ليسوع المسيح.. قلّبت في الكتاب ذي الصفحات الرقيقة فلم أفهم شيئاً من أسفاره الخمسة عشر، ولا من أسماء أنبيائه الذين لم أسمع بهم من قبل: نافي، أنوش، ياروم، عمني، موسايا (ربما كان موسي)، ألما، حيلامان، أثير، وموروني...
ولكن ما علاقة هذا الدين بالمسيح عيسي عليه السلام؟ وهل هو دين مستقل بفرائضه وسننه أم مذهب منشق عن المسيحية؟ وما حقيقة وخلفية جوزيف سميث هذا كي يقدسه أتباع المورمون؟ وأين وإلي أي مدي ينتشر هذا الدين المزعوم؟ لربما كان نزوة أو بدعة أو تمرداً محدوداً داخل إحدي الكنائس؟ أو ربما كان ديناً عصرياً بالفعل كالبهائية التي نعرفها في مصر، أو الرائيلية التي ظهرت في فرنسا قبل أربعين عاماً ويعبد أتباعُها كائناتٍ فضائية تسمي إلوهيم؟ ما رأي المسيحية التي يحمل اسمها هذا الدين ويناقضها في أسسه ومنهجه؟ وكيف لم أسمع بهذا الدين من قبل، ولم يصادفني أي من أتباعه طوال هذه السنوات في بريطانيا؟... تركني الشابان غارقاً في حيرتي وأسئلتي وغادرا بسرعة، معلليْن ذلك بأن عليهما زيارة جيراني في مقاطعة توتنهام هيل وتبشيرهم بالدين الجديد قبل حلول الظلام...
تحولَت عطلتي في رأس السنة إلي انهماك عميق في دراسة وسبر أغوار هذا الكتاب.. وجدته مسلياً وخطيراً في الوقت ذاته، يدعو للحسني لكنه يختلق رواية جديدة تماماً للكون والرسل.. يقص علي لسان نبي ما يُدعي لِحي حكاية هجرته بأمر «الرب» مع زوجته سرايا وأبنائه الأربعة لامان ولموئيل وسام ونافي من القدس أو أورشليم كما يحلو للكتاب أن يسميها في بعض المواضع قبل هلاكها عن بكرة أبيها بعد أن انتشر فيها الفساد.. ترحل الأسرة إلي البرّية حيث يواجه أفرادها الشدائد والصعاب، ثم يبني الابن الصالح نافي سفينة في الصحراء وسط سخرية إخوته، يستأنفون بها مسيرتهم في مياه البحر وصولاً إلي القارة الأمريكية، وهناك يُخفون في مكان ما بولاية نيويورك سجل رحلتهم الشاقة هذه بما تضمنته من رؤي الأب لحي والابن الصالح نافي، والتي تلقي فيها الاثنان تعليمات وتحذيرات ونبوءات من الرب، منها كما يرد في الإصحاح العاشر من سِفر نافي الأول من الكتاب نبوءة مجيء المسيح مخلصاً وفادياً بين اليهود، ثم مجيء من يعمّده، ثم موته وقيامته.. غير أن هذه التعليمات والتحذيرات والنبوءات لن تتاح لذرياتهم من بعدهم إلي أن يشاء «ربهم» في الموعد المكتوب، والذي سَيَحِين في عام 1827 ميلادية.. ولكن ماذا عن أجيال وأجيال عاشت وماتت خلال نحو أربعة وعشرين قرناً في جهل بهذا الوحي إن صدق؟ لماذا بخل عليهم «ربهم» بنور المعرفة؟ يجيب المبشران علي سؤالي هذا في أحد لقاءاتنا التالية بإجابة سهلة تجهض النقاش: إنها مشيئة الله...!!
استقبلتُ المبشريْن في منزلي مرة أخري بعد أيام.. استهلا الحديث هذه المرة وختماه بعد نحو ساعة بدعاء إلي المسيح أن يهديني إلي دينهم وأن يعلن لي صحة كتاب المورمون بقوة الروح القدس.. بينما كنتُ في هذه اللحظات أتمتم بأدعية إلي ربي أن يمكنني من كشف حقيقة هذا الدين وأسراره.. سألت الشابيْن متي وكيف توليا هذا الدور التبشيري.. فقالا إن أي مورموني في العالم يجب أن يقضي عامين في مهام تبشيرية عندما يبلغ العشرين من عمره، يترك حينئذٍ بلده ويذهب أولاً إلي الولايات المتحدة ليتم تلقينه أصول التبشير وتعليمه اللغة الإنجليزية لبضعة أشهر إذا كان بحاجة لذلك، ينتقل بعدها إلي بلد آخر يمارس فيه مهامه التبشيرية، ويمنع خلال هذه المرحلة تماماً من التواصل مع أسرته إلا من خلال مكالمة هاتفية قصيرة كل أسبوع، ويمنع كذلك من الدخول علي شبكة الإنترنت، ومن استخدام خدمة الرسائل علي هاتفه المحمول، كما يُمنع من مغادرة الحي الذي يبشر فيه، إلا مرة للتسوق كل أسبوع، ويعيش في منزل برفقة ثلاثة مبشرين آخرين من جنسيات مختلفة.. وينبغي لكل فريق أن يتألف من اثنين من المبشرين، ولا يجب علي أحدهما أن يتواصل بمفرده مع الشخص المستهدف، خشية أن يتزعزع إيمان المبشر الصغير حين لا يجد من يسعفه بالإجابة علي سؤال صعب، أو حين يتعرف علي حكايات أشد حبكة مما ورد في كتابهم «المقدس»...
سألت المبشريْن عن «أرض الموعد» التي يتكرر ذكرها في الكتاب، فأوضحا لي أنها المكان الذي شيد فيه نبيّهم نافي السفينة، فهي بالنسبة لأتباع هذا الدين ويبلغ عددهم كما يزعمون أكثر من عشرة ملايين أرضٌ مقدسة، يطمَحون للعودة إليها واستيطانها.. وقد ذهب بعضهم إلي أن هذه الأرض هي مدينة صلالة بسلطنة عُمان، ثم اتضح لهم أن مواصفات أرض الموعد هذه تتطابق أكثر مع مناطق أخري تقع علي ساحل محافظة ظفار العُمانية، استناداً إلي رحلة قام بها باحثان مورمونيان استراليان هما وارين أستون وزوجته ميشيليا، ونشرا تفاصيلها في كتاب بعنوان (علي خطي لِحي) عام 1994، وأكد هذه النظرية البروفيسور نول رينولدز بعد أن زار هذه المناطق بصحبة فريق من جامعة برجهام يونج المورمونية في ولاية يوتاه الأمريكية.. وتنظم هذه الجامعة رحلات بحثية دورية لهذه المناطق ومناطق أخري شبيهة لتحديد موقع أرض الموعد قبل إعلانه لأتباع هذا الدين المشتتين في كل أنحاء العالم.. وبطبيعة الحال ستجد مثل هذه الافكار من يروج لها ويدافع عنها، بعد أن اقتربت رموز هذا ا لدين من البيت الأبيض بترشح العديد منهم للرئاسة الأمريكية، وآخرهم كان المرشح الجمهوري ميت رومني في انتخابات العام الماضي. وليسرح كل منا بخياله ليتصور ما هو السيناريو المقترح حين يشار إلي إحدي تلك المناطق في الجزيرة العربية علي أنها موطن دين جديد كهذا، تقدر ثروة زعمائه بعشرات المليارات من الدولارات، وهو ما تشي به دعايته التبشيرية ومراكز أقطابه وأنبيائه المزعومين... ألا يُذكِرنا ذلك بما حدث في فلسطين؟، إن التاريخ يعيد نفسه، فهل سنقف ونتفرج، كما تفرجنا من قبل علي أرضنا في فلسطين وهي تنهب بخدعة مماثلة وتقام عليها دولة إسرائيل؟
في لقائي التالي بالمبشريْن كنت قد قطعت شوطاً في قراءة كتاب المورمون، وصعقني من جديد ما ورد في نهاية الإصحاح الثاني عشر من سِفر نافي الأول هذا، علي لسان ملاك يخاطب الابن الصالح نافي بما يثبت ويفسر عنصرية المورمون ضد أصحاب البشرة السمراء، وهو أمر أثار في نفسي غضباً شديداً، فقد كان الملاك المذكور يصف لنافي ما يسمي بأرض الموعد، مدعياً أن من بين سكانها البارين سيهلك العاصون ويضمحلون، ثم يتحولون إلي (أناسٍ سمرٍ ممقوتين دنسين يسود بينهم الجمود وألوان من المبغضات) كما نص الكتاب! ولذا فقد استقر في نفس كل مورموني أن الشخص الأسود هو عبد ممقوت من الله، وأن لونه إنما هو عقاب علي معصية آبائه.. ولعل هذا كما علمتُ فيما بعد ما جعلهم ينبذون السود ويمنعونهم من دخول كنائسهم وتقلد المناصب فيها.. ارتبك المبشران حين واجهتهما بهذا الأمر، ثم ادعيا أن كنيستهم أعادت النظر في تفسير ذلك النص «المقدس»، وقررت في النهاية أن تغفر للسود خطيئة أسلافهم، وبدأت ترحب بهم علي مضض، لكنهم ما زالوا محرومين من النبوة واعتلاء الوظائف العليا في مؤسساتهم الدينية.. والحقيقة أن ذلك العفو جاء تحت ضغط هائل من منظمات حقوق الإنسان في الولايات المتحدة.
يتنبأ الكتاب كذلك بتأسيس دولة إسرائيل في الإصحاح الخامس عشر من نفس السِفر، حين ( يعيد نافي علي إخوته أقوال إشعياء عن إرجاع اليهود في العصر الحديث إلي ما يسمي ببيت إسرائيل، وبعد إرجاعهم لا يُخزوْن فيما بعد ولا يشتتون مرة أخري...) بنص الكتاب!... ويندهش المبشر الإيطالي الشاب من انزعاجي من هذه النبوءة، ويقول مهدئاً من ثورتي: ألستَ يهودياً بحكم نشأتك في مصر؟! إن بلادك جزء من أرض اليهود ودولة إسرائيل الكبري!!.. ياللكارثة..!! أنا في نظرهم يهودي؟ بل وبلدي مصر يهودية؟ ويقولها المبشر المورموني بهذه البساطة والعفوية؟ إن حقيقة الدين الأمريكي الجديد بدأت تتكشف لي شيئاً فشيئاً.. ليزداد إصراري علي التغلغل فيه أكثر واكتشاف كل ما في جعبته من سموم وأسرار.
قبلت أخيراً دعوتهما لحضور قداسهم الأسبوعي ظهر يوم الأحد بكنيسة القديسين الأواخر في منطقة والثاماستو سنترال علي بعد محطتين بالقطار من منزلي.. استقبلني رواد الكنيسة بحفاوة بالغة، وتسابقوا علي التعرف عليّ وإمدادي بالمطبوعات وكتيبات الترانيم.. بدت لي الكنيسة غير الكنائس التقليدية، تخلو جدرانها من اللوحات والنقوش، ويغيب عنها تمثال المسيح المصلوب، ويرتدي قساوستها بدلات عصرية أنيقة.. بدأت الطقوس بترديد بعض الترانيم علي أنغام البيانو، ثم تناوُل جرعات من الماء المبارك (لم أعرف سر بركته)، ثم الاستماع إلي شهادات وقصص من المتحولين إلي المورمونية.. كنت مستمعاً ومشاهداً علي هامش القاعة، لم أردد أغانيهم ولم أتناول ماءهم، ولم يحثني أي منهم علي المشاركة في هذه الطقوس.. لكنني اكتفيت بترديد الفاتحة وبعض السور القصيرة بصوت هامس كي أشعر بالاطمئنان، محدقاً في جميع التفاصيل من حولي لتوثيقها فيما بعد.
خلال القداس دعا الكاهن إلي الاحتفال بمعتنق جديد لدينهم، انضم إليهم في ديسمبر من العام الماضي، وتم تعميده قبل أيام بغمره في ماء مقدس علي الطريقة المورمونية، ثم نادي الكاهن علي هذا الشخص، الذي عرّفه باسم جديد يختلف عن ذلك الذي كان يحمله إبان اعتناقه لدينه السابق.. هتف الكاهن بفخر: إن الأخ «كايل» تحول بإيمان وإخلاص من الإسلام إلي المورمونية، فلنهنئه جميعاً.
من الإسلام إلي المورمونية؟ إنها لمفاجأة نزلت عليّ كالرعد.. شعرت أن أصابع هذا الدين تعبث في جسد أمتي، وها هو البعض من أبنائها يستجيب... غادر «كايل» مقعده في خجل، وسار بخطوات متعثرة نحو المنصة، مطأطئ الرأس، محنيّ الظهر، غارقاً في بدلته الفضفاضة.. كانت ملامح وجهه الداكن تفصح عن هويته الباكستانية علي الأرجح، وكانت هيئته تعكس فقره وضعفه، وكانت عيناه الغائرتان زائغتين بين الجمهور المحدق.. ثم وقف مرتعشاً إلي جوار الكاهن، وأمّن علي كل عباراته المستفسرة عن مشاعره بعد التعميد بإجابة واحدة: نعم.
وما أن انتهي القداس حتي هممت بالانصراف، لكن المبشريْن ألحا في أن أبقي لحضور درس سيستغرق ساعة واحدة حول نشأة الكون، بعدها سيُعرفاني علي المسلم السابق «كايل» كي أستفيد من تجربته.. ووجدت أن هذه قد تكون فرصة جديدة للاطلاع علي حقائق جديدة من وجهة نظر ذلك الدين الغامض، وكذلك للتعرف علي قصة تحول هذا المسلم الباكستاني إلي تلك المورمونية.. فتوجهتُ معهما إلي غرفة الدراسة، واستمعت إلي شرح من أحدهما لقصة الخلق كما يرويها كتاب مورمون، الذي يفترض أن أرواح البشر جميعاً عاشت قبل الخلق في مملكة السماء إلي جوار «الأب السماوي»، قبل أن يستجيب آدم وكان اسمه آنذاك رئيس الملائكة ميخائيل لأمر ربه بالتحول إلي هيئة بشرية والنزول إلي الأرض لاختبار إيمانه، متبوعاً بالأرواح الأخري كلٍ حسب دوره بعد أن تمحي ذاكرته السماوية.. وبعد الفناء الجسدي تعود الأرواح إلي السماء لنيل ثوابها بنيل المكانة الإلهية ومجاورة الرب، أو عقابها بالنفي والحرمان من هذه المكانة.. كان المبشر الإيطالي يشير دائماً بنبرة طفولية مازحة إلي سعيه لإرضاء الله بترديد عبارة: أريد أن أكون إلهاً مثله!!
بدهاء حوّلت مسار النقاش إلي جوهر الإيمان، وهل يكفي له اطمئنان القلب، أم يتوجب في سبيله اقتناع العقل.. وكان ذلك رداً علي المبشريْن في ادعائهما بأن الصلاة إلي الله تكفيني للتثبت من صحة مزاعم هذا الدين، حتي لو خالفَت عقلي وفطرتي.. توجهت إلي الشاب الباكستاني المتحول إلي المورمونية، وسألته بنبرة استجواب: أنت مثلاً.. لماذا تركتَ الإسلام؟ تلعثم قليلاً ثم قال: لأنني لم أشعر في الإسلام بما أشعر به الآن كمورموني..!! قلت له مستنكراً: هل يكفي شعورك كي تغير دينك؟ هل درست ما يكفيك عن الإسلام والمورمونية كي تفضل أحدهما علي الآخر؟
بعد ثلاثة أشهر كنت قد قرأت كل ما أمدني به المبشران المورمونيان من كتب ومطبوعات، وشاهدت أفلاماً دعائية عن دينهم صُنعت بأحدث التقنيات وأعلي الإمكانيات، وبحثت عن كل ما بثته حولهم شبكة الإنترنت، ولم يستقر في وجداني سوي الإنكار لعقيدتهما ونظرياتهما.. ورغم أنني لم أفصح للمبشريْن فوراً باستنتاجي هذا، إلا أن الشك ساورهما، وبينما كنت في طريقي لعملي ذات صباح في شهر مارس الماضي، إذ أصرا علي مقابلتي علي محطة قطار توتنهام هيل، وهناك دعاني المبشر الإيطالي بوضوح إلي التحول إلي المورمونية.. وقال إن كنيسته تعلم الخطر الذي قد أتعرضُ له في بلادي إذا تركتُ ديني، وطمأنني إلي أن لديهم كنيسة في القاهرة بمنطقة المعادي بإمكانها حمايتي والدفاع عني!! وعرض عليّ إن شئتُ عملاً بكنيستهم في لندن إذا ضاق بي الحال!!
نظرتُ إلي الشابين الإيطالي والأمريكي.. كانا قد استنفذا كل الوسائل لدعوتي إلي دينهم الجديد.. لكنهما لم يعرفا أنني من ألد خصوم إسرائيل، وأشد أعداء السياسة الأمريكية وكل ما تفرزه من مخططات للعبث بعقيدتنا والاستيلاء علي أراضينا وثرواتنا.. وأنني لم أرث إيماني بالله من والديّ، وإنما هو ثمرة بحث وتفكر واقتناع.. أمعنتُ النظر في وجه كل منهما وقد احتقن في انتظار إجابتي.. وما أن وصل قطاري إلي المحطة، حتي حملت حقيبتي، ومددت لهما يدي بالسلام، ثم قلت في هدوء: لكم دينكم ولي دين! وتركتهما وحيديْن علي رصيف القطار...
رأيي لا يعبر بالضرورة عن رأي أي مؤسسة عملت أو أعمل معها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.