من الذي يستطيع أن يجمع حسن البنا بجمال عبدالناصر بالسادات بمحمد حسنين هيكل بفؤاد سراج الدين بفريد شوقي بيوسف إدريس بعبدالرحمن الرافعي بطه حسين بصلاح نصر بيوسف وهبي بسعيد مهران وسرحان البحيري أشهر أبطال روايات نجيب محفوظ؟ إنه الكاتب الكبير صلاح عيسي طبعاً، الذي يضفر كل هذه الشخصيات الزاخرة والمحتشدة التي تشكل لوحة بانورامية لمصر ما بعد الثورتين «1919 و1952»، في كتاب شديد الإمتاع- كعادته- بعنوان لافت يحمل محبة وليس انحيازاً «شخصيات لها العجب». الكتاب ليس مجرد ترجمة جافة لسيرة الشخصيات التي يضمها،وليس سردا لذكريات جمعت المؤلف بمن التقاه منهم، وإنما هو صنف ثالث، لا يتخلي فيه صلاح عيسي عن هوايته الأثيرة والمحببة في إزاحة التراب عن مجموعة من الوثائق النادرة والمهمة، وفيه قراءة عميقة ومحاولة لتشريح دوافع الشخصيات التي يصفها عيسي في المقدمة بأنها «ليست شخصيات تاريخية فقط ولكنها أيضا شخصيات فنية، فيها ما في الشخصية الفنية، من أضواء وظلال، ونور وعتمة، وشجاعة وحماقة، وإقدام وتراجع، وعطاء وأنانية»، موضحاً أن شخصيات الكتاب فيها من لعب أدواراً علي المسرح ووقف تحت أضوائه وفيهم من تراجع إلي ما خلف ستار التياترو إلي الأبد. خذ مثلاً ما يرويه المؤلف في الجزء المخصص عن زعيم الوفد السابق فؤاد سراج عن تلك الحكاية الطريفة عن الطريقة التي تم بها تهريب نسخة من جريدة الأهرام في اليوم التالي لاعتقالات سبتمبر، وكيف كانت هذه النسخة هي المفتاح الذي فكوا به شفرات ما حدث لهم، إذ اعتقل الجميع تقريباً- أكثر من 1500 شخص- دون أن يعرفوا سبباً واضحاً لذلك، حتي لما قرأوا في الأهرام الهجوم المتتالي من السادات عليهم، مختصاً بعضهم بعبارات محددة مثل أن «هيكل عاش كفاية"- يقصد الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل- فهموا بعضاً من الأمور، إلا أن تلك الجملة «هيكل عاش كفاية» أثارت قلق الأستاذ كثيراً وبات علي يقين بأن معناها الوحيد هو أن السادات اتخذ قرارا بالتخلص منه، ورغم أن مؤلف «شخصيات لها العجب» قال لهيكل إن العبارة غاضبة وتعكس توتر السادات ليس أكثر، إلا أن الأستاذ - بحسب الكتاب- ظل قلقا ليتساءل عيسي:«كان الذي يشغلني طوال الوقت هو من أين جاء هيكل وقد كان قريبا من السادات وعلي معرفة وثيقة وطويلة به- بهذا اليقين إنه لن يتورع عن قتله بصورة تبدو قانونية أو تبدو طبية! ذلك سؤال لم أجد له إجابة حتي الآن»، ويبدو أن اغتيال السادات بعد قوله لهذه العبارة بشهر واحد فقط، هو الذي جعل هذا السؤال معلقا حتي الآن. علي أن الكتاب يفرد جزءا كاملا للحديث عن هيكل بعنوان لافت «تراجيديا الفرعون والكاهن»، ويصدره بعبارات قد تجسد حالة هيكل الاستثنائية في الصحافة والسياسة «مشكلة البحث عن هيكل أن فصل الذروة في عمره كان مضيئاً بشكل يعمي عن الرؤية.. ففي تلك السنوات الثماني عشرة التي انتهت في 28 سبتمبر 1970 كان هيكل ملء السمع والبصر، لا يغادر الخشبة، ولا تخطئه أعين المتفرج.. كان باختصار تحت كل أضواء الدنيا، كما يليق برجل كان يوصف -آنذاك- بأنه أقوي رجل في مصر، بل في الشرق الأوسط، ولعل الوهج الزائد علي الحد هو الذي جعل أكثر الفصول إضاءة في عمره، وأكثرها غموضاً وأحفلها بالظلال ومناطق العتمة». وهكذا بأسلوبه الرشيق المسجل باسمه، وبحس روائي أخاذ، ينتقل صلاح عيسي في كتابه من شخصية لها العجب إلي أخري تثير العجب أيضاً، فيصف حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين بأنه «داعية موهوب، ومنظم عبقري، ولم يكن فقيهاً أو منظراً أو مفكراً» معتبراً أنه من سوء الحظ- للجميع- أن دعوة الإخوان خرجت من الإسماعيلية التي كانت في هذا الوقت- 1928- «مستوطنة أوروبية» يعاني فيها المصريون من الفقر وضيق الحال مما رسخ لدي البنا فكرته عن انقسام العالم بين شرق وغرب لا التقاء بينهما. وفي الجزء الذي يسرد فيه وقائع ما أسماه بأول صدام بين «العسكريتاريا والبروليتاريا» - أي رجال الثورة والعمال-، يلفت المؤلف إلي نقطة شديدة الأهمية وهي أن الحكم الظالم القاسي بإعدام العاملين في مصنع كفر الدوار للغزل «مصطفي خميس» و«محمد البقري» بعد 20 يوماً فقط من قيام ثورة يوليو، بتهمة «التجمهر وحمل الأسلحة والاعتداء علي جنود الجيش» رغم إنهم لم يكونوا أكثر من قيادات في إضراب نظمهم عمال المصنع ضد إدارته، هذا الحكم كان رادعا ومرعبا للطبقة العاملة للحد الذي جعل العمال لا ينظمون أي إضراب لمدة ربع قرن متصل بعد هذه الوقائع! الكتاب الضخم - يقترب من 600 صفحة - فائق المتعة حقا، ويزخر بكم كبير من المعلومات والوثائق والحكايات الإنسانية النادرة، والمشكلة الوحيدة التي قد تواجه قراءه من أبناء هذا الجيل التعس، هو تلك الحسرة التي ستنتابهم عندما يكتشفون أن مصر كان بها شخصيات لها العجب في زمن زاخر، فيما هم الآن يعيشون زمناً فقيراً إن بقيت فيه بعضا من «الشخصيات» فقد زال الزخم وراح العجب وشخصياته الأثيرة في زمن ولي، ولم يبق لهم منه سوي بعض من قبسه في صفحات هذا الكتاب «المرجع».