تولد لدي كاتب هذه السطور ما يشبه النفور من ذلك النوع من الكتب الكشكول, حيث يقوم الكاتب بتجميع عدد من المقالات المتناثرة والمنشورة في الصحف السيارة كيفما اتفق, ودون أن يجمع بينها سياق ما, والمكتوبة خصيصا لمناسبات معينة ومختلفة فيما بينها, وعندما يتجمع عدد معقول من الصفحات, يقوم علي الفور بنشرها في كتاب, لذلك يتسم هذا النوع من الكتب عادة وغالبا بالطابع الكشكولي, أي مجرد عدد كبير من الصفحات المتعجلة والمتنافرة التي لا تشكل فيما بينها سياقا ما. لكن صلاح عيسي في كتابه الأخير شخصيات لها العجب الصادر عن دار نهضة مصر نجا من هذا الشرك, وصاغ جدارية كبري 589 صفحة من القطع الكبير من خلال52 شخصية لعبت أدوارا شكلت قلب وعقل الأمة علي مدي ما يقرب من قرن من الزمان, منذ عبد الرحمن الرافعي المؤرخ الكبير, وانتهاء بمحمد جاد الرب أحد القديسين الراحلين. البورتريهات التي صاغ منها صلاح عيسي جداريته الكبري هي أصلا مقالات نشرت في صحف ومجلات مصرية وعربية بين عامي1988 و2009 باستثناء عشر شخصيات لم يورد الكاتب تاريخ أو مكان نشرها فضلا عن البورتريهات الثمانية لشخصيات سبق أن رسمها الراحل الكبير نجيب محفوظ في أعماله الروائية. أود في البداية أن أمسك الخشب, فهذا الكتاب يضم فقط المجموعة الاولي, أي أن هناك مجموعات أخري! كما أن هناك مجموعة أخري من هوامش المقريزي تحت الطبع بعد مجموعته الاولي, ومجموعته حكايات من دفتر الوطن صدر منها أربعة أجزاء, وتحت الطبع خمسة أجزاء, والأدهي من كل ذلك أن شخصيات لها العجب تحتل رقم21 من أعمال صلاح عيسي!! والحقيقة أن صلاح رجل شغيل يأخذ نفسه بالشدة, ولا يكف عن الكتابة التي هي متعته الوحيدة, ولا يتوقف في الوقت نفسه عن متابعة الشئون العامة في الصحف السيارة, والجهد الذي يبذله هو جهد أسطوري في حقيقة الأمر( يراجع القارئ علي سبيل المثال فقط رجال ريا وسكينة والبرنسيسة والأفندي)! لكل هذا أظن أن علي الواحد أن يمسك الخشب.. فصلاح قيمة شامخة ككاتب ومؤرخ وصحفي, علي الرغم من كل الخلافات التي نشأت وقد تنشأ حول مواقفه وتحولاته, والمهم أن لدي قناعة كاملة أن مواقفه وتحولاته ليست المصالح الصغيرة أو الكبيرة سببا في اتخاذها, فصلاح مازال حتي الآن وقد تجاوز السبعين شغيل وعلي باب الله! أما جداريته الأخيرة شخصيات لها العجب فهي من بين أعماله القليلة التي يتخلي في كثير من الشخصيات التي اختارها عن حياد المؤرخ وصرامته وبروده المطلوب, ويفصح عن مشاعره, بل ويوشك علي البكاء أحيانا خصوصا عندما يتناول أصدقاءه الراحلين وهو يودعهم الوداع الأخير, مثل حلمي مراد وعبد الستار الطويلة وفؤاد مرسي ولطفي الخولي ومحمد سيد احمد وعبد العظيم أنيس ومحمود أمين العالم ولطيفة الزيات وعبد الفتاح الجمل وعبد السلام رضوان وابراهيم منصور ومحمد جاد الرب. الي جانب هذا هناك ما يمكن أن يشكل ثلاثة سياقات رئيسية الأول تناول حركة الاخوان المسلمين وتوابعها, مع تركيز خاص علي التنظيم الخاص للاخوان, وهو ما يمكن أن يشكل بدوره كتابا يتناول الشخصيات التي لعبت دورا كاسحا في حركة الاخوان من حسن البنا الي عبد الرحمن السندي ومن سيد قطب وحسن الهضيبي الي علي عشماوي, كما يتناول في الوقت نفسه السؤال المركزي الذي يجب أن يوجه للاخوان: هل هم جماعة من المسلمين؟ أم هم جماعة المسلمين؟.. وانتهي صلاح في هذا السياق الي واحدة من دراساته المهمة عن شكري مصطفي الذي زامله في معتقل طره بين عامي1968 1971. يعتمد صلاح عيسي علي مادة هائلة, ليس في حجمها فحسب, بل في تنوعها واختلاف مصادرها فيما يتعلق بالاخوان ذاتهم, وفي الوقت نفسه يعتمد علي ثقافة عريضة وفهم شامل لحركة التاريخ المصري, فيؤكد مثلا أنه من سوء الحظ التاريخي أن الاخوان المسلمين قد نشأوا خارج نطاق معطف الجبهة الوطنية التي كان الوفد يقودها, وفي ظل الظروف التاريخية التي تحولت فيها الحركة القومية من حركة تقاوم في الشارع الي سلطة سياسية تجلس علي مقاعد الحكم, ليس فقط لأن ذلك عزل الاخوان عن التأثر بالرؤي المشتركة لمختلف تيارات الحركة الوطنية, وخاصة الوفد بل لأنه دفعهم كذلك للدخول في منافسة سياسية مع تلك التيارات, تحولت الي صراع عدائي ضد حزب الوفد بسبب محاولة الاخوان الاستيلاء علي جماهير الوفد. أما السياق الثاني فهو سياق الضباط الأحرار منذ استيلائهم علي السلطة عام1952 وحتي تولي السادات الذي يختتم به الكاتب تلك المرحلة في واحد من أخف تعليقاته دما وأكثرها مسخرة ويحمل عنوان الرئيس مقاولا والمقاول رئيسا حول العلاقة الخاصة جدا بين السادات وعثمان أحمد عثمان. وإذا كان الضباط الاحرار قد بدأوا حركتهم المباركة بإعدام العاملين مصطفي خميس ومحمد البقري أثناء إضراب عمال كفر الدوار قبل مرور عشرين يوما علي الحركة المباركة, فإن الكاتب واصل تشريحه والتقاطه لشخصيات لها العجب فعلا وانتهت الي مصائر لم يكن ممكنا توقع أن تنتهي علي هذا النحو, فصلاح نصر الذي كان مجرد ذكر إسمه يثير الهلع, شاهده صلاح عيسي عندما كان معتقلا في سجن القلعة..يحكي: كنت في طريقي الي الحمام, اختلس نظرة الي زنزانته, فيدهشني أن جدرانها مغطاة بورق مزخرف, وبها أرفف كثيرة تحمل أطعمة وصناديق ورقية لاشك أنها كانت تحتوي علي مالذ وطاب مما كنت وغيري من المعتقلين من أبناء الشعب نتشهاه في هذا المكان الغريب الذي حرمنا فيه من أحضان الأحبة, وأطعمة الأمهات ورعاية الزوجات وحنو الدنيا, وكان, في ليالي القيظ الشديد, والتي تغلق فيها علينا أبواب الزنازين وتزحف اسراب البق تمص دماءنا- يمضي الليل جالسا علي مقعد للبلاج في الباحة المكشوفة يستمع الي جهاز راديو كان الوحيد المسموح له باستخدامه يواصل صلاح عيسي التقاطه الذكي لمسيرة الضباط الأحرار ومصائرهم من خلال شمس بدران وحمزة البسيوني مستشار عبد الناصر لمكافحة الشيوعية وأحد كبار الجلادين وأساطينهم ومحمد حسنين هيكل بوصفه كاهنا أكبر ومراد غالب وعبد اللطيف البغدادي وأكرم الحوراني وسعد الدين وهبة وبطرس غالي وغيرهم وغيرهم.. في هذا السياق تحديدا حالف الكاتب التوفيق بشدة, فكل شخصية من هذه الشخصيات يمكن للقاريء ان يقرأه وحده, وفي الوقت نفسه فإن الفصول المتتابعة تشكل دراما تراجيدية كبري, شأنها شأن تراجيديا, الاخوان المسلمين التي لاتزال دائرة علي خشبة المسرح, وشأنها شأن التراجيديا اللاحقة التي تشكل السياق الثالث لهذا الكتاب الممتع الصادم! يضم السياق الثالث9 شخصيات يسارية رحلت جميعا عن عالمنا باستثناء الفاجومي أحمد فؤاد نجم أمد الله في عمره ومتعه بالصحة ويلتقط صلاح لحظات متتابعة من كل شخصية تشكل في النهاية ملامحها وجوهرها, متخليا عن حياد المؤرخ وبروده وصرامته كما سبق أن أشرت ويطلق العنان لمشاعره ويكاد يكتب عنهم بقلبه وليس بقلمه ففؤاد مرسي الرفيق خالد سيبرق اسمه في سماوات مصر الملكية ثم مصر الجمهورية علي امتداد الخمسينيات داعيا الي تحرير الوطن وتحرير الشعب فيحشد حوله عواطف جياشة لجيل جديد,لم يكتف بثورة1919 ولابثورة1952, وظل يحلم بثورتنا المقبلة. أما ماكتبه مثلا عن لطفي الخولي فهو ليس مجرد رثاء أو تأبين أو تعليق علي رحيل الخولي, بل دراسة معمقة لما أطلق عليه لعبة الاستيعاب المتبادل بين عبد الناصر والشيوعيين ويمكنك أن تقول الشئ ذاته عن نعمان عاشور والوثيقة المرفقة مع البورتريه التي شكلت بدورها اضافة مهمة, وتتضمن نص محاضر التحقيقات التي اجرتها النيابة مع نعمان عاشور في اواخر عام1945 واوائل1946 وربما كان البورتريه الذي كتبه عن محمد سيد احمد من أرق وأعزب ماكتبه صلاح علي الرغم من أن مقاله كان تعليقا علي احتفالية بمحمد سيد احمد في حياته وقبل رحيله.. وتتتابع البورتريهات النابضة بالحياة..يوسف ادريس وعبد العظيم أنيس ومحمود أمين العالم ولطيفة الزيات.. إنها شخصيات لها العجب فعلا كتبها حسبما عبر هو بروح تنحو الي الانصاف, وتكاد تخلو من الموجدة, وحرصت بقدر ما أطيق ألا أحمله مالاطاقة له به, وأن اري ما في نفوسهم من نور, ومافيها من ديجور, وأحببتهم في قوتهم وفي ضعفهم, انطلاقا من رؤية صافية بأن هؤلاء هم البشر, وهكذا خلقهم الله. والأعجب من كل هذا هو صلاح عيسي نفسه الذي أنجز مثل هذه الجدارية الضخمة لقرن من الزمان ونحن القراء يعني ننتظر منه جدارية أخري حسبما وعد في مقدمته, تضم عوام الناس الذين عرفتهم ممن كانوا يشاهدون المسرحية مثلي من مقاعد أعلي التياترو وسوف تصدر قريبا حسبما وعد أيضا واختار لها عنوان شخصيات عادية من زمن ليس كذلك..