وزيرة التنمية المحلية: اللامركزية ركيزة أساسية للتنمية البشرية    «بنيامين ذئب يفترس».. نتنياهو يحتفل بيوم ميلاده ال75 على دماء الفلسطينيين    إيران تتقدم بشكوى لوكالة الطاقة الذرية بشأن تهديد إسرائيل مواقعها النووية    عاجل.. إصابة نجم الأهلي تصدم كولر قبل نهائي السوبر أمام الزمالك    السلوفيني فينسيتش حكما لمباراة برشلونة وبايرن ميونخ بدوري الأبطال    منتخب الشاطئية يصعد إلى نصف نهائي كأس الأمم الإفريقية    الأمن يضبط شخصين شرعا فى سرقة وحدة جهاز تكييف بأسيوط    تارا عماد تقدم دور أكشن بفيلم درويش مع عمرو يوسف ودينا الشربيني    غادة عبدالرحيم: المؤتمر العالمي للصحة والسكان انطلاقة حقيقية لمبادرة "بداية"    محافظ أسوان يستقبل ضيوف مهرجان تعامد الشمس بمطار أبو سمبل الدولي    فصائل فلسطينية تعلن مقتل محتجزة إسرائيلية في شمال قطاع غزة    وزير الإسكان يعقد اجتماعًا موسعًا لمتابعة موقف تنفيذ "حديقة تلال الفسطاط" بقلب القاهرة التاريخية    رئيس الوزراء يُتابع مع رئيس المركز الوطني لتخطيط استخدامات أراضي الدولة ملفات العمل    ضمن «بداية».. تنظيم بطولة كاراتيه للمرحلتين الإعدادية والثانوية بالمنوفية    السيطرة على حريق هائل بكافتيريا بالطريق الزراعي السريع «طنطا/ كفرالزيات»    منها «قاسم والمكنسة».. أشهر نوات تضرب الإسكندرية فى 2024    قرار جديد من المحكمة بشأن المتهمين بغرق 16 فتاة في حادث «معدية أبو غالب»    بالصور.. "مؤتمر الجمعيات الأهلية" يُكرم رائدات الأعمال بالجيزة    جولة مفاجئة لوكيل «التعليم» بالغربية على مدارس كفرالزيات    الأربعاء .. انطلاق المؤتمر السنوي الثالث في العلوم الإنسانية بجامعة بنها    «النواب» ينتهي من مناقشة مشروع قانون المجلس الوطنى للتعليم    محاضرة لمحافظ شمال سيناء للمشاركين في برنامج أهل مصر    البورصة المصرية تختتم بريح 49 مليار جنيه ومؤشرات خضراء    تقديم خدمات علاجية ل17 ألف شخص على نفقة الدولة في المنيا خلال سبتمبر    تعديلات في قانون التأمين الصحي الشامل لضم المستشفيات النفسية والحميات    حريق يلتهم محلًا تجاريًا في الغربية (تفاصيل)    محمود أبو الدهب: شوبير يستحق المشاركة أساسيًا مع الأهلي    البورصة والدعاية ومكافحة الحرائق.. أنسب 10 مهن ل برج الحمل    السوبر المصرى.. السلطات الإماراتية تستدعى ثلاثى الزمالك للتحقيق    «النواب» يوافق على إنشاء «المجلس الوطني للتعليم» في مجموعه ويؤجل الموافقة النهائية    الولايات المتحدة تعلن عن دعم مبادرات أوكرانيا    غدا.. آخر موعد للتقديم في مسابقة الأزهر السنوية للقرآن الكريم    انطلاق مهرجان «أكتوبر العزة والكرامة» بجامعة القناة (صور)    وزير الدفاع الأمريكي يصل كييف لمناقشة طلب أوكرانيا الانضمام للناتو    تداول 14 ألف طن بضائع بموانئ البحر الأحمر    سيطرة مصرية على المشاركة في تحدي القراءة العربي.. وجوائز العام 11 مليون درهم    الصحة: 50% من الأفراد يستفيدون من المحتوى الصحي عبر الدراما    تفاصيل أول حالة لاستئصال البروستاتا بالتبخير في مستشفيات الدقهلية    التعليم : سعر الحصة لمعلمي سد العجز 50 جنيها شاملة كافة الاستقطاعات    وزير التعليم العالي يستقبل سفير أذربيجان لبحث آفاق التعاون المُشترك    محفوظ مرزوق: عيد القوات البحرية المصرية يوافق ذكرى إغراق المدمرة الإسرائيلية «إيلات»    لجنة الميثاق العربي تناقش تقرير قطر لتعزيز حقوق الإنسان    الأمريكي صاحب فيديو كلب الهرم: تجربة الطائرة الشراعية في مصر مبهرة    وزيرة التضامن الاجتماعي تبحث مع سفير قطر بالقاهرة تعزيز سبل التعاون    كيف أقصر الصلاة عند السفر.. اعرف الضوابط والشروط الشرعية    حدثوا التابلت ضروري.. تنبيه عاجل من المدارس لطلاب 2 ثانوي    أزمة نفسية.. تفاصيل إنهاء عامل حياته شنقا من مسكنه في المنيرة الغربية    أهلي جدة في مهمة صعبة أمام الريان بدوري أبطال آسيا    ناقد رياضي: على «كهربا» البحث عن ناد آخر غير الأهلي    الأمن الإماراتي يستدعي ثلاثي الزمالك للتحقيق.. ورئيس النادي يهدد بالانسحاب من السوبر    ليفربول يرصد 50 مليون يورو لضم جول كوندى مدافع برشلونة لخلافة أرنولد    الحوار الوطنى يكشف التأثير الإيجابى للدعم النقدى على القدرة الشرائية للأفراد    المرور تحرر 29 ألف مخالفة متنوعة خلال 24 ساعة    وزير العمل : عرض قانون العمل الجديد على مجلس الوزراء نهاية الأسبوع الجارى    إطلاق رشقة صواريخ من لبنان    علي جمعة يكشف حياة الرسول في البرزخ    هل النوم قبل الفجر بنصف ساعة حرام؟.. يحرمك من 20 رزقا    هل كثرة اللقم تدفع النقم؟.. واعظة الأوقاف توضح 9 حقائق    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد سعيد محفوظ يكتب: أرجع.. مرجعش!
نشر في الدستور الأصلي يوم 30 - 04 - 2010

«ما زلت في إجازة»...! يسيء الكثير من أصدقائي في لندن فهم هذه الإجابة حين يسألونني بدهشة: أين أنت؟... فالإجازة (في أوروبا والدول المتقدمة) تعني الاسترخاء والتخلص لفترة من ضغوط الحياة! يحسدونني هؤلاء الحمقي، فهم لا يعرفون كيف بدت لي بلادي بعد سنوات من الغربة.. لا يعيشون حيرتي، ولا يحسّون بمرارة الغربة الجديدة التي طالت حلقي ونفذت إلي قلبي منذ هبطت بي الطائرة هذه المرة بالذات..
ما زلت في إجازة...! أقولها «من غير نِفس» وأنا أتطلع يائساً إلي المشهد وقد تاهت فيه كل التفاصيل الجميلة التي عرفتها قبل مغادرتي مصر منذ سنوات، وهيمن عليه بدلاً منها كل ما هو منفَّر وقبيح! أتنهد فأملأ صدري بدخان السجائر الذي أكرهه، ويتصبب عرقي فيختلط بالأتربة المحيطة بي من كل جانب، وأشعر بالتلزيق! ويتعطل تفكيري وأنا أتذكر لندن، ثم ألوم نفسي إذ جرؤت علي المقارنة.. إنه الفرق بين السماء والأرض علي رأي أحد زملائي الذين سمعوا عن العالم الخارجي ولم يروه قط.. محبَط هذا الزميل شأنه شأن كل من قابلتهم في الإجازة حتي الآن.. يا ربي! هل من متفائل في هذا البلد؟ رئيسة تحرير محسودة علي بقائها في منصبها منذ أكثر من خمسة عشر عاماً اعترفت لي بأنها تخاف من بكره! شباب حديث التخرج لم يجد له وجهة فجلس في البيت، صحفيون مصابون بدوار الفضائيات، مخرجون ومنتجون، مديرون وموظفون، حتي القهوجي العابس، والسمسار الصعيدي، وصاحبه البواب الذي تزوج فتاة تصغره بثلاثين عاماً لتعينه علي تنظيف شقق العمارة.. كلهم لا يكفون عن الشكوي.. أري فيهم جميعاً موظف الاستقبال في فندق أمانة بالصومال حين قال لي: لو كانت زوجتي دولاراً لأكلتها!!
لم تكن إجازتي للتنزه.. لقد اقتنصتها من فم الأسد لرعاية أمي، أجّلت عملي ودراستي وجئت إليها لاهثاً عندما داهمتها نوبات السعال وآلام المفاصل.. ولكن (اللي يشوف بلوة غيره...)!! هكذا فكرت وأنا أقول بحزن لأحد الصحفيين المخضرمين وهو يجري معي حواراً: مصر عيانة.. ربنا يشفيها!! تجد أمي علي الأقل من يأتي لها بالدواء، لكن مصر.. ملهاش حد!! الحكومة كل همها ألا يختنق المرور بالمعتصمين! وأقطاب النظام يفكرون في صحة الرئيس وتأثيرها في مستقبلهم! والإعلام الحكومي يثني علي الواقع ولا يستغفر.. والإعلام الخاص يتسابق بجنون كالميكروباصات لمّا تفتح الإشارة.. والمظاهرات علي ودنه، لكنها ليست بالدواء، إنها الآه فقط.. يسمعها القاصي والداني لكن أي منهما لا يكترث! البرادعي أمل، لكن يعرف المتعلقون به أنه لن يغير شيئاً.. الدستور الذي يطالبون بتعديله ينظم تداول السلطة، لكن ماذا عن الجهل والفقر والمرض؟ الجمعيات الأهلية تنظم رحلات مخفضة لأعضائها لكنها لا توفر عشاء للجوعي، والأحزاب تجتمع.. ثم تجتمع وتجتمع، وبعد ذلك تجتمع كي تعود فتجتمع.. وفي النهاية ينام الجوعي بلا عشاء.. لا الحكومة أنصفتهم، ولا أطعمتهم الأحزاب ولا الجمعيات.. والبرادعي يلف ويدور آملاً في التغيير.. فلا يغيّر إلا قميصه عندما يشعر مثلي بالتلزيق!!
وحشتني لندن.. لا تري في إعلامها مذيعة تعوم علي عوم رئيس تحرير صحيفة حكومية وهو ينتقد المطالبين بالتغيير، ولا ثورة غضب علي كاتب كشف صفقة سياسية بين الحكومة والمعارضة، ولا تستراً علي مسئول تقاضي رشوة وفضيحته في أمريكا علي كل لسان.. فينك يا لندن تيجي تشوفي قذارة الشوارع في بلدي، والأرصفة المكسرة، والأسفلت الذي غار وكاد يبتلع سيارة في الأزاريطة، ووسائل المواصلات العامة التي لم أر مثلها إلا في بيشاور، وقطارات الدرجة الأولي التي تفوح من مقاعدها رائحة الغبار، وتمرح الفئران فيها علي أرفف الحقائب (آه واللهِ)..
قال إجازة قال!!.. أي إجازة تلك وأنت تتحرك بسيارتك كالسلحفاة في ميدان الدقي الساعة الواحدة ظهراً، بينما يتمدد شخص في مثل سنك بالتأكيد علي شاطئ ريفيرا في فرنسا متنعماً بإجازته.. أنت تنفخ من الزهق، وهو يستنشق اليود.. أنت تركن سيارتك صف تاني وتفضل أن تسير علي قدميك في الحر كي تدرك موعدك وأنت تسب وتلعن.. وهو يدلك قدميه بالرمال الناعمة ويقرأ رواية عاطفية تحت الشمس!! متزعلش يا عم الفرنساوي، مش بحسدك!! أنا بحسدك بس!!!
كنت أشكو من كآبة المنظر في لندن عندما أطل من نافذتي علي السماء الرمادية كل صباح، وأحمل مظلتي أينما ذهبت، وأعجز عن شراء رغيف خبز بعد العاشرة مساء.. يا لغبائي! إن كآبة لندن أرحم بكثيييير من غلاسة الموظفين في أي مصلحة حكومية هنا في مصر، الواحد منهم يعاملك كما لو كنت أنت الحكومة التي تدفع له راتبه الضئيل، ويطالبك بالرشوة عيني عينك ثم يضعها في درج مفتوح، واللي مش عاجبه يضرب دماغه في الحيط... كم أشتاق إلي وجه موظفة التذاكر الصبوح في محطة قطار إيجام علي أطراف لندن حيث كنت أدرس قبل عامين، كانت تنصت لي وتقترح عليّ أوفر العروض وكأنني زبونها الوحيد، يا تري كم كان راتبها؟... أما هنا فويلك إذا طلبت مثلي من إدارة البعثات أن تشرف «شكلياً» بس علي رسالتك للدكتوراه في الخارج.. سوف يتطلب الأمر عشرات الوثائق والأختام، علي رأسها موافقة مباحث أمن الدولة التي قد تستغرق أسابيع وربما شهوراً!! إسألني أنا! لا يحتفلون بك لأنك ترتقي بعلمك، ولا يهنئونك لأنك حظيت بالرعاية الأكاديمية من جامعات بلاد بره، وإنما يحققون معك: ليه؟ وفين؟ وعشان إيه؟ طبعاً إذا عدتُ إلي جامعتي في لندن وقلت لهم إن في بلدنا ينبغي لمباحث أمن الدولة أن توافق أولاً علي دراسة المواطنين في الخارج فسوف يسخرون مني ويتهمونني بالجنون! أو قد يضيفون ذلك إلي أدلتهم القاطعة علي تخلفنا وتخلف أجهزتنا الحكومية.. وعموماً أنا حطلع جدع ومش حقوللهم، بس الموافقة تطلع!!
إن تدهور بلادي يا سادة قريش لم يعد سراً يمكن إخفاؤه بمانشيت عن افتتاح مصنع أو إنشاء مدينة عمرانية جديدة علي الصحفة الأولي في الأهرام وصورة الريس وهو يداعب عاملة ويسألها طبخِت إيه إمبارح تتصدر الخبر.. إذا افتتِحَت عشراتُ المصانع فإن ذلك لن يصد كرة الاقتصاد المنحدرة لأسفل بسرعة الريح.. ولو شُيدت مئات الوحدات السكنية فإن ذلك لن يمنع سقوط صخرة جديدة في الدويقة علي رءوس سكانها، أو احتراق قلعة كبش أخري بأطفالها وكلابها الضالة، ووقتها ستتكرر نفس ردود الأفعال الشعبية والرسمية، وحفكرك!!
هذا هو المشهد الذي وجدت عليه بلادي بعد أكثر من عشر سنوات.. الإنتاج قل، والفقر زاد، والجهل انتشر، والانتماء اختُزل في كرة القدم، والفساد أخذ رخصة، والمتفائلون صاروا عملة نادرة.. لماذا؟ ببراءة أسأل، مثلما سأل قبلي مئات وربما آلاف المصريين المقيمين في الخارج وخاطر العودة يراودهم.. هل هو الوضع السياسي الراكد بسبب الحجر الثقيل الجاثم علي الصدور؟ هل هي الفجوة التي اتسعت بمقدار آلاف الفشخات (باللبناني) بين الأغنياء والفقراء؟ هل هو تضخم نفوذ رجال الأعمال واحتكارهم كل شيء حتي راحة البال؟ هل هي الزيادة السكانية؟ التعليم المتدني؟ المستشفيات المتدهورة؟ الإعلام المراهق؟ لماذا بلغت مصر هذا الدرك الأسفل رغم تاريخها ومكانتها؟ لماذا اختفي النشيد الوطني وحلت محله الهتافات ضد الحكومة والنظام؟ لماذا ترك المواطنون بيوتهم وعسكروا علي الأرصفة للاحتجاج علي معيشتهم من رغيف العيش إلي الحق في الحياة بكرامة؟ لماذا؟ محدش بيرد.....
«ما زلت في إجازة».... أيوه تاني! ألملم إجابات المتفذلكين علي سؤالي التقليدي: أرجع مصر ولا مرجعش؟ استفتيت كل الأصدقاء حتي المحبطين بمزيج من الدهاء والإخلاص.. فعلتُ كما فعلَت أمي حين قالت بمكر لسائق التاكسي: دي الحياة بقي لونها بمبي!! فانتفض كمن عضه ثعبان، وصاح بغضب: بمبي إيييييه؟
الدنيا كلها جمعاااااء تحذرني من الرجوع الآن... بل هناك مِن أصدقائي مَن ينصحني بالبقاء في بريطانيا للأبد! ويسأل معاتباً: ترجع مصر تعمل إيه؟... أعمل إيه؟؟ أعيش... أتمتع بعُشِي بدلاً من التحليق في سماء الغير.. أردّ لبلادي ما استعدته لها من مستعمريها القدامي الذين نهبوا خيراتها قبل عشرات السنين.. أصلِحُ ما أفسده الدهر في وطني.. ألا يحق لمصر أن تستفيد من علمي وخبرتي؟ ألا أستحق أن أنال التقدير فيها مثلما نلته في الغرب؟ أليس من واجبي أن أساعد أولاد بلدي علي النهوض والتقدم؟...
يسخر مني الأصدقاء وأنا أردد بحماس هذه التساؤلات.. لكن أحدهم يتطوع بحسم الجدل، ويبدأ في إسداء النصيحة الفاصلة: شوف يا عم المخلص.. بما إنك غاوي غلب يبقي ارجع براحتك، لكن عليك أن تلتحق بمجرد العودة بأحد مجالس الشر في مصر!... وات؟ (يعني نعم يا روح ماما بالإنجليزي!!)... أحدق فيه لأتاكد أنه هو نفسه صديقي الطيب القديم، الذي لم أشك لحظة في حساسيته ورقة قلبه.. يضيف هامساً: لكي تتعايش مع الحيتان في بلدنا، يجب أن تحتمي بمجلس من مجالس الشر المتوافرة في كل المجالات، ستجد من أعضائها صحفيين ونقادًا ومسئولين ورجال أعمال، إذا أعاق شخص ما مصالح أحدهم، يتحالف الجميع لإسقاطه.. ثم يضرب لي مثلاً بمسئول كبير في وزارة الثقافة ترك منصبه بعد أن تكتل عليه مجلس الشر الذي ينتسب إليه هذا الصديق، الطيب سابقاً..!! أوه ماي جاد...! لو كنت المُخرج في هذا المشهد لأضفت في الخلفية أغنية (يا بلادي) الحزينة من فيلم (بحر البقر) بطولة ماجدة.. فقد انفطر قلبي عندما عرفت أن التكالب علي المكاسب في مصر دفع بالمثقفين إلي حروب قذرة يتقاتلون فيها بهذه الضراوة، بدلاً من التكاتف من أجل حل مشاكل البلاد والخروج بها من أزمتها الطاحنة...
يخفف صديق آخر من صدمتي، ويقول بنبرة طبيب: يكفيك أن تتكئ علي أحد مراكز القوة والنفوذ.. أسأله: تقصد وزير مثلاً؟ يقول مصححاً: لاااا.. أقصد رجل أعمال!! فالوزراء المسئولون لا مستقبل لهم الآن!! ثم يحصي لي أسماء بارزة نالت ما نالت بفضل فلان بيه وبدعم علان باشا.. فيييينِك يا لندن؟!! ياللي كل وظيفة شاغرة فيكي يجب أن تعلن للجميع علي السواء بكل الوسائل، ويمر المتقدمون بتصفيات متدرجة، ويحصلون علي فرص متساوية أمام لجان الاختيار، وفي النهاية يفوز الأكفأ.. لا يسمح البرلمان القوي بغير ذلك بديلاً، ومادام الإعلام الحر راضياً، فالأمن مستتب وكل شيء علي ما يرام!!
صديق ثالث يهدئ من روعي، ويناولني بسرعة كوباً من الماء كي أبتلع الاقتراح السابق بعد أن وقف في زوري.. ثم يقدم اقتراحه العملي، المقدور عليه كما يصفه بحكمة: إنت تشغّل عندك اثنين، سائق يخلصك من منغصات المرور، ومحام ينوب عنك في المصالح الحكومية.. ثم تشتري شاليهاً في مارينا أو شرم الشيخ، وتقضي معظم وقتك هناك!! يا صلاة النبي.. إن صديقي يقترح أن أكون موجوداً ومش موجود.. أعيش في مصر المرتاحة وأتجنب مصر اللي طالع بوزها.. أمتنع عن الاختلاط بالموظفين، والسير في الشوارع، والاستماع إلي آهات المعتصمين وتوسلات الشحاذين.. وبدلاً من ذلك أمتع بصري بقصور وفيلات الساحل الشمالي والبحر الأحمر، وأحرك مصالحي بالريموت كونترول.. تباً لك!! فهكذا يحيا المتنطعون وليس أنا.. أنا لست من رجال الأعمال الذين تمنّعوا حين عُرضت عليهم المناصبُ الوزارية لأنها سترغمهم علي مغادرة قصورهم والاحتكاك بهذا وذاك.. هكذا قال أحدهم علي التليفزيون بالحرف!!
أزمتي كبيرة.. فوسائل الحياة الجديدة في مصر تستعصي عليّ.. لا أنا من هواة الحروب، ولا من محبي قملة القِرش، وأكره مارينا والريموت كونترول.. فماذا أفعل؟ ماذا يفعل من ضاق ذرعاً بكثرة الترحال، ويريد لبلده أن تحظي من شبابه بنصيب؟ أليست بلدي بحاجة إلي أبنائها المهاجرين؟ يردد السيد الرئيس والسادة الوزراء شعارات كتلك في المناسبات الانتخابية.. فهل يفضون بها المجالس؟ ألم تتراجع ريادة مصر الإعلامية حتي بعد السماح بإنشاء قنوات وصحف خاصة؟ هناك العشرات من المصريين البارزين في هذا المجال خارج مصر وباستطاعتهم استعادة هذه الريادة إذا أعطيت لهم الفرصة.. ألا تعترف الحكومة بفشلها في العملية التعليمية وإخفاقها في بناء أجيال تواكب العصر؟ أعرف العديد من خبراء التعليم المصريين في بريطانيا والولايات المتحدة لديهم القدرة علي إنقاذ مصر من مستنقع الجهل والأمية... ألم يضرب الفساد قطاع الصحة في مصر، ولم يعد الرئيس شخصياً يخجل من السفر للعلاج في الخارج؟ الأطباء المصريون في أنحاء العالم هم صفوة الأساتذة في كل التخصصات، والواحد منهم برقبة عشرين وزير صحة في أي حكومة... إن مصر بحاجة لأولادها المبعثرين في الشرق والغرب.. مصر عيانة، والأم حين تمرض، يهرع إليها الأبناء كي يلتفوا حولها ويتسابقوا علي رعايتها.. ولكن حين يسمع الأبناء عن مرض أمهم فلا تتحرك فيهم شعرة، يكون السؤال: هوا العيب ف مين؟ فينا ونحن نتلهف علي العودة.. أم في بلادنا التي تتفنن في تطفيشنا، حتي من الإجازة؟
سأل من قبلي هذه الأسئلة الدكتور أحمد زويل، والدكتور فاروق الباز، والدكتور مجدي يعقوب.. كما سألها أمثالي ممن نالوا حظاً متواضعاً من العلم والخبرة في الخارج، وما أكثرهم.. وقفوا في لحظة ما في مفترق طرق بين البقاء والرجوع.. نظروا إلي الوراء فوجدوا المؤسسات الأكاديمية الغربية تحتضنهم وتوفر لهم شتي الإمكانات، وتمجد موهبتهم، وتصقلها بالدورات والرحلات العلمية.. ووجدوا وسائل الإعلام العربية والأجنبية تفخر بهم وتدفعهم إلي الصفوف الأولي.. ثم نظروا إلي الأمام فوجدوا حكومة ترتدي ثياباً مهلهلة ولا تريد أن تنظر في المرآة (أقرع ونُزَهِي!!).. الشعب حافي القدمين والأمن يقول له: وطي صوتك وانت بتصرخ من الجوع عشان الحكومة نايمة ومش عايزة حد يزعجها..!! عاد زويل والباز ويعقوب إلي من يحترمهم وليس إلي من يحتاجهم، فالعمر مش بعزقة.. ولم تتعظ مصر.. تواصل التطفيش المنهجي، فتخسر كل يوم ابناً من أبنائها قد يكون علاجها علي يديه.. يقنعها أولاد الحلال من ذوي العقول البوليسية أن من يتربي في الخارج، قد يعود بقيم ديمقراطية لا تناسبنا، ويوجع دماغنا باللي بيحصل في لندن واللي بيحصل في أمريكا واللي بيحصل في الهند.. فلنركز جهدنا علي مواجهة المشاغبين في الداخل.. مش ناقصين!!
ويبقي السؤال بلا إجابة: أرجع ولا مرجعش؟.. أشق طريقي في زحام الإسكندرية ساعة الذروة، قاصداً وادي الشلالات الموازي لشارع السلطان حسين.. أتذكر صديقي الذي عالج نفسه من الاكتئاب بالتردد علي هذه الحديقة في الظلام الدامس كل ليلة قبل الفجر.. كان يتجرد من ملابسه، ثم يقفز بهستيريا وسط الأشجار وهو يسب ويشتم كل ما ومن يخطر علي باله: الحكومة.. المحافظة.. الجزار.. وزير التعليم... بعدها يرتدي الشاب المكتئب ملابسه ويعود للمنزل في استسلام وقد نفث عن غضبه، ليبدأ يومه الجديد مرتاحاً.. بينما يتمدد صاحبنا الفرنساوي علي شاطئ الريفييرا بلا عقد أو كلاكيع..
أقطف وردة رقيقة من الحديقة، وأملأ صدري برائحتها، ثم أعتذر لها مشفقاً وأنا أشرع في نتف أوراقها، الواحدة بعد الأخري، فيما أردد في حيرة: أرجع.. مرجعش.. أرجع.. مرجعش.. أرجع.. مرجعش!
رأيي لا يعبر بالضرورة عن رأي أي مؤسسة عملت أو أعمل معها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.