أولئك الذين أمضوا عاما ونصف العام ينبهون لخيانة طنطاوى، وصفقته مع الإخوان، فكان جزاؤهم الدهس والرصاص الحى، ثم أمضوا عاما آخر يطالب المشايخ بإقامة حد الحرابة عليهم، يتناوب عليهم وزير داخلية من خلفه وزير آخر تأتى به جماعة الإخوان، ثم تقيله لأنه لم يقتل العدد الكافى الذى يشبع نهم الجماعة، فبعد أن قتل أحمد جمال الدين عددا منهم فى شارع قصر العينى، أقاله مرسى لأنه رفض قتل المتظاهرين أمام الاتحادية، وأتى بالوزير الحالى، محمد إبراهيم، الذى أجرى مذبحة بورسعيد، وعلق عدد من الإخوان على أدائه قائلين إن الداخلية واجهت الشغب باحترافية! ذلك لأنها قتلت 50 فى ساعتين، وقتلت الذين كانوا يشيعون جنازة الضحايا. أولئك الذين لم يقطع روبرت فيسك وتوكل كرمان تذكرة الطائرة للتضامن معهم، أولئك الذين لم تهتم آشتون وباترسون بجثثهم، أولئك الذين تجاهلهم العلَّامة القانونى طارق البشرى وهو يزعم أن ماحدث للإخوان لم يحدث فى التاريخ، وكأنهم سقطوا من التاريخ، بينما هم صُناعه الحقيقيون، أولئك الذين أصابوا وأخطؤوا. هم قلة، لكننى لا أستطيع أن أبخس الغالبية حقها، فقد نزل الناس بأعداد كبيرة لمساندتهم فى محمد محمود، لكنهم فشلوا فى تقديم البديل، فانفض الناس، وقال لى أحد الراحلين من محمد محمود: يا بنتى إنتو صعبانين علينا، عايزين نساعدكوا، بس انتو ما بتحلوش، قولوا حل واحنا نمشى وراكوا.. ظلت هذه القلة تحاول المرة تلو الأخرى، حتى أفرزت فكرة تمرد. عن هؤلاء أتحدث، ولهؤلاء أقدم التعازى التى لا تنقطع.
لما حدثت مجزرة المنصة، قابلتها بهدوء لأن صور الجثث لم تعد تفزعنى، فقد رأيت جثث الأصدقاء، وشممت رائحة الدم عدة مرات، ولست ممن يتخذون مواقف سياسية، لأننى لست سياسية، ولست ممن يعلنون عن مواقف لأنهم يجب أن يعلنوا عنها. لا أتصرف أو أتكلم إلا بما أشعر، يصح بقى ما يصحش.. لا أهتم. لذا فأنا لم أنصب مناحة عقب مجزرة المنصة، لأننى ببساطة لا أشعر بذلك بصدق. خابرنى صديق: يا نوارة أنا عارف مشاعرك ناحية الإخوان بس بلاش تتكلمى عشان الناس أعصابها تعبانة.
فأجبت: وأنا عملت إيه؟ المفروض أعمل عليهم مناحة يعنى؟ لا عملت عليهم مناحة ولا عملت على ظباط الشرطة اللى همّ قتلوهم مناحة كمان.
فرد على الفور: لا ما هو انت طبعا مش حتعملى على ظباط الشرطة مناحة.. همّ دول زى الشرطة؟
فقلت: مش زيهم ليه؟ إنت نزلت مواجهات مع الشرطة عشان كده لما بيحصل لحد فيهم حاجة مش بتتهز، بس انت ما نزلتش مواجهات مع الإخوان.. أنا نزلت وباقولك زيهم زى الداخلية وأوحش، الداخلية بتضرب علينا نار ولما بنجرى ونستخبى فى شوارع جانبية ما بيجروش ورانا يجيبونا زى ما الإخوان عملوا فى الاتحادية. الإخوان مش زى الداخلية ليه يا صاحبى؟ إنت شوفت الداخلية بتعذب، وأنا شوفت الداخلية والإخوان بيعذبوا زى بعض، أنا ليا واحد صاحبى فقد قدرته على الزواج والإنجاب من كتر تعذيب الإخوان فيه، شوفت الداخلية وهى بتضرب علينا نار، وشوفت الإخوان وهم بيضربوا علينا نار، شوفت الداخلية بتعذب، وشوفت الإخوان بتعذب، شوفت الداخلية بتفض اعتصامات وشوفت الإخوان بيفضوا اعتصامات، الداخلية دخلتنى المشرحة على صحابى، والإخوان دخلونى المشرحة على صحابى، الداخلية طيرت عيون الناس قدامى، والإخوان طيروا عيون الناس قدامى، بس ما اتوجعتش من الداخلية زى ما اتوجعت من الإخوان، ظباط وعساكر الداخلية بالنسبة لى آلات لابسين يونيفورم مش مميزة ملامحهم، لكن فى الاتحادية شوفت ناس أكلت وشربت معاهم، وكانوا معتصمين فى الخيمة اللى جنبى، شايلين عليا شوم وآلى.. يعنى أنا قضيت ده كله بآكل وأشرب مع ناس ممكن تقتلنى وأنا مش عارفة؟ أنا مش شمتانة فيهم، ولا شمتانة كمان فى الظباط اللى هم قتلوهم، بس الرحمة باللى مات بس؟ مافيش رحمة باللى عايش؟ أنا بقيت عاملة زى مقاتلين الحرب العالمية التانية، اللى شوفته أثر عليا فى كل حاجة، كل حاجة، كل ساعة باتفزز من نومى، مين يعوضنى؟ مين يقتص لى من اللى عملوه فيا الداخلية والإخوان مع بعض؟ ماليش إلا ربنا وربنا هو اللى عمل كده، الاتنين مسلحين، والاتنين بيتصارعوا على السلطة، والاتنين عملوا جرايم، والاتنين قتلوا لى صحابى، وأنا مش عارفة أبقى ست شيك وأعمل نفسى متعاطفة مع حد فيهم.. مش قادرة، غصب عنى، مش قادرة، مش عارفة أنسى.
اختنق صوت الصديق بالبكاء وأغلق الخط، ثم أرسل لى رسالة: ربنا يصبرك ويصبرنا.