ثانيا:السياسة فى بلد تلوك فيها ألسنة الناس أحاديث السياسة أكثر من لقيمات الخبز ويبيع فيه الناس الشعارات أكثر مما يبيعون قوتهم لابد لنا من أن نتوقف أمام حالة المسخ السياسى كيف وصلنا الى مرحلة نبدو فيها وكأننا -سياسيا- دخلنا تيه بني اسرائيل ولن نخرج قبل أربعين سنة ؟
كيف حدث هذا بعد ثورة ظن فيها العالم أن أصغر أطفال ميدان التحرير يمتلك وعيا أكبر من أى خبير سياسى من هؤلاء الذين يملئون التلفزيونات ؟ لست أكتب فى الواقع لألقى اللوم على طرف دون الأخر وحتى لو كانت قناعتى مع أحد منهم
لست أجد أن حل مشكلتك مع زوجك هو أن أريحك بقول أنه المسؤل عن تدهور علاقتكما وانما أحاول أن أعرف لماذا قبلتى به حين طرق بابك؟؟؟ ......هل هي صدمة فى حب قديم ؟ هل هو خوف من قطار العمر السريع ؟ هل هو ضعف أمام رغبة والديك ؟
من السهل أن ألقى باللوم على الاخوان ومن الأسهل أن ألقى باللوم على جبهة الانقاذ ومن الأكثر سهولة أن أتظاهر بالحيادية فأنتقد هذا وذاك ولكن هذا لن يجيب عن السؤال الأهم ..... كيف وصلنا الى تلك المرحلة ؟
وهو فى رأيى من نوعية الأسئلة التى تحتاج الى أن تأخذ بعض خطوات الى الخلف قبل أن تجيب عنها لأنك حتما سترى صورة أوضح . الخطوات التى سترتدها الى الخلف ستفتسر لك التجريف والتشويه والتزييف الذى حدث لواقعنا السياسى
قبل أن أستطرد أجد أنه من المهم أن أحذرك أن الاتى لن يعجبك اذا كنت من دراويش هذا أو مجانين ذاك لأن معالجة موضوعية لموضوع المقال تحتاج الى توزيع المسئولية على كل من أدلى بدلوه فى حالة المسخ السياسى التى نعيشها الأمر قد يحتاج الى مقالات للتفصيل ولكن هذا فى رأيى يحتاج الى بحث باحث وليس اجتهاد صاحب وجهة نظر وهو ما أحسب نفسى أقرب اليه
(1) جمال عبد الناصر الزعيم ....... الملهم ..... المعلم ....القائد ..... كلها ألقاب قيلت عن الرجل والواقع أنه استحق أكثر من تلك الألقاب فقد امتلك شخصية ساحرة وكاريزما رائعة وكان على درجة عالية للغاية من الذكاء العاطفى والقدرة على التواصل مع الناس
الطول الفارع .... الأكتاف العريضة ..... الصوت ذو الرنة النحاسية المميزة .... كلها كانت مميزات جعلت من عبد الناصر مثالا حيا للبطل الأسطورى الذى تنتظره كل الشعوب كل تلقى فوق كتفيه بعبء الالام وثقل الطموحات والأحلام ولكن رغم ذلك لا يستطيع أحد ان ينكر دور عبد الناصر فى الحالة الممسوخة التى وصل اليها واقعنا السياسى استغل الرجل شعبيته الاسرة فى قتل ديموقراطية وليدة فى هذا البلد أراد دائما أن يكون الأوحد صاحب الكلمة الأولى والأخيرة ومن يمتلك رأيا مخالفا فهو من أدعياء الرجعية أو أعداء القومية العربية
وطوال قرائتى لسيرة عبد الناصر واستماعى اليه لم يساورنى شك قط فى حسن نيته أو اخلاص لوطنه ولكن منذ متى كان حسن النية شفيعا للانسان كى يكون ديكتاتورا مستبدا قمعيا ينكل بمن يخالفه فى الرأى
هل كان حسن نية الزعيم تعويضا كافيا لالاف الأبرياء الذين قضوا سنوات فى ظلمات المعتقل ؟
هل أعادت شعارات الزعيم وخطبه الرنانة أحدا ممن دفعوا حياتهم ثمنا لغرور زائف ؟
هل كانت وطنية الزعيم درعا واقيا لأسرى طاردتهم المدرعات فى صحراء سيناء ؟
هل شعر الزعيم فوق منبره العالى ووسط صرخات الحماسة وضجيج الأيدى التى التهبت بالتصفيق بشعور أسرة فقد عائلها فى نفس اللحظات التى كان فيها أحمد سعيد يحصى عدد الطائرات التى أسقطتها قواتنا الباسلة ؟
هل نستطيع أن نبرئ عبد الناصر من إرث الديكتاتورية والشمولية والاستبداد الذي خلفه ليتوارثه من جاء بعده ؟
ههل يمكننا أن نسامحه فى دماء أبنائنا وفى أراضينا التى ذهبت أدراج الرياح وفى وصمة العار التى لحقت بتاريخ شعب وكسرة النفس التى أحس بها جيل كامل كفر بكل شىء دفعة واحدة ؟
ليس بإمكان منصف أن ينكر أن الرجل امتلك مشروعا طموحا وواضحا ولكن لأن المشروع لم يكن محصنا بقواعد الديمقراطية ولم يكتسب صفة المؤسسية أو يصطبغ بصبغة المشروع القومى طويل الأجل متعدد المراحل فى أى بلد ديمقراطى يسير بخطى محسوبة سبق تقديرها وتحديدها ولا تتأثر بتغير هذا الرئيس أو ذاك .... لأن المشروع الناصرى لم يكن لذلك ..... ذهب الى حيث ذهب عبد الناصر بلا رجعة !!
(2) أنور السادات اذا أردنا أن يكون فى كلامنا أكبر قدر من الترابط والتواصل بين أجزائه وفقراته فلابد أن نبدأ بتلك الحكاية التى رويت عن الرئيس السادات ولعلها ككثير مما قيل عنه وعن غيره ليست حقيقة وانما هى كما قال المليجى ( تنفيسة) يخرج منها المصريون أصدق التحليلات وأروع النظريات ولكن فى شكل ضاحك أو طريف.
الحكاية تقول أن الرئيس السادات كان يركب سيارته مع سائقه الخاص عندما توقف السائق عند تقاطع ما وسأل الرئيس هل نتجه الى اليمين أم الى اليسار ؟ حينها أجاب الرئيس بسؤال أخر .... قال له " تفتكر لو عبد الناصر عايش كان دخل يمين ولا شمال ؟ " أجاب الرجل " يمين " فرد السادات بتلقائية " خلاص ادى اشارة يمين وادخل شمال "
كان السادات صانعا أساسيا لحالة المسخ السياسى الذى عشناه ومازلنا نعيشه لأنه وجد نفسه أميل الى الاستمرار فى نفس طريق عبد الناصر الاستبدادى ولكن دون مشروع أو على أحسن تقدير برؤية مختلفة تماما عن رؤية عبد الناصر التى كان الشعب يبتلع معها على مضض بطشه وقمعه وهنا لجأ السادات الى أساليب خطرة سياسيا ذاق وبالها أكثر من أى أحد أخر وأحسب أنه لم يحسب جيدا عواقب استخدامها
السادات حاول إضفاء صبغة ديمقراطية زائفة على عهده إلا أنها ورغم كونها زائفة فتحت أعين الكثيرين على حقوق لم تكن فى بالهم أصلا وشجعت مماراسات مثل الصحف والتظاهر والمؤتمرات والأمسيات الثقافية والتى مثلت جميعا فحما متقدا فى هدوء مميت تحت صفحة الحكم الساداتى
كما عمد السادات الى ضرب خصومه ببعض فكان يطلق حرية طرف ما اذا علم أن هذا الطرف قد يساعده على التخلص من أخر وهكذا
ولنا فى إطلاق حرية التيارات الإسلامية أمام دعاة الإشتراكية والناصرية أبلغ مثال ولكن لأن المكر السىء دائما ما يحيق بأصحابه انتهى الأمر بالجميع غاضبين على السادات وانتهى به الأمر غاضبا عليهم جميعا .... كرهه الجميع وأرادوا التخلص منه كما اعتقلهم جميعا وأراد التخلص منهم وفى ذلك الجو من الكراهية المتبادلة ترسخت حالة المسخ السياسى فى أبشع صورها وأقبح وجوهها حين أفاق الجميع على جسد الرئيس وهو الى مصفاة بشرية بفعل طلقات تلقاها وسط جيشه وبين رجاله
(3) حسنى مبارك أن تكون بلا كاريزما وبلا مشروع وبلا ذكاء وبلا هدف ( سوى البقاء فى الكرسى ) ثم تمكث لثلاثين عاما لا تقدم فيهم ولا تؤخر فلابد أنك البطل الأول فى صنع المسوخ
اجتهد حسنى مبارك جدا فى تجميع مساوئ سلفيه وصهرها فى بوتقة حكمه .تجاوزهما فى القمع وفى فرض السيطرة البوليسية واحكام القبضة الأمنية على كل المقاليد بل وطور من تلك المساوئ على طريقته بحيث أخذت طابعا مباركيا خالصا جعلها تبدو وكأنها جديدة تماما فعلى سبيل المثال كان عبد الناصر والسادات أميل الى استبعاد أى قيادات تعارضهم وترى غير مايروه وكان ذلك ارثا لمبارك جعله دستورأ فوق كل الدساتير بل وجعل الأمر يمتد الى أى قيادة تحوز اعجابا أو تثبت كفاءة فى مجالها حتى ولو ظلت تردد صباحا ومساءا الجملة المملة " بناء على توجيهات السيد الرئيس " والأمثلة كثيرة يكفى أن تذكر أسماء مثل المشير أبو غزالة أو السيد كمال الجنزورى أو حتى عمرو موسى
وهكذا التفتنا جميعا الى وطننا فى لحظة لاحقة فوجدناه وقد أقفر من قيادات تستطيع أن تعبر به لحظته الحرجة وجدنا أنفسنا نقارن بين أسوأ الخيارات دون بارقة أمل فى ظهور أختيار جيد وجدنا أنفسنا نقبل السىء من الحكام فقط لأننا لانستطيع ان نجيب السؤال الصعب " طب نشيله ونجيب مين ؟ "
ولم يتوقف التطوير المباركى عند نقطة التجريف وانما تخطاها الى التزييف بحيث تم تفصيل الأحداث على مقاس السيد الرئيس وتم محو من يمكنه أن يكون أوضح فاى الصورة من السيد الرئيس وليس ما حدث للفريق سعد الدين الشاذلى بالأمر المجهول للعامة أو الخاصة
وهكذا ايها السادة بين من أسس للأستبداد ومن ورث استبداده وأضاف اليه التفرقة بين الناس وبين من ورث خطايا الاثنين وأضاف اليها عار التجريف والتزييف وصلنا الى ما نحياه من المسخ الساسى ملحوظة أخيرة: لم أضع نقطة رابعة بعد الثلاث نقاط التى ذكرتها لأن الرابعة هى ذاتها حالة المسخ السياسى التى اجتهدت - قدر إمكانى - فى تحليل كيفية الوصول اليها