التاريخ يكتبه الأقوى. هكذا تحدث المثل، وآمن به من آمن، وظن أن الأقوى هو السلطة، لكن القوة الحقيقية للشعوب، التى وإن طال الاستبداد بها، فإنها تنتفض لتنتزع حريتها، وتؤكد قوة وجودها، وأنها القادرة على كتابة تاريخها من خلال ذاكرتها الجمعية، حتى وإن أراد المدلسون أن يدلسوا، ويزوروا التاريخ لصالحهم، فالشعوب مارد، والمارد يمرض لكن لا يموت. منذ أن انطلقت حركة المعارضة المصرية ضد نظام مبارك وتبعيته، وفساده واستبداده فى جميع مؤسسات الدولة حتى اصطبغت الحياة بصبغته، كانت حركة «9 مارس» التى تأسست فى الجامعة فى 2003 بمثابة القطار الذى انطلق، ثم كانت حركة «كفاية» العظيمة فى 2004، وما أحدثته فى الشارع من حركة، وردة فعل حقيقى ضد النظام المباركى، وتوّج هذا الأمر ب«الجمعية الوطنية للتغيير»، التى أُسست فى 2010 مع قدوم الدكتور البرادعى إلى مصر (ولا يستطيع أحد أن ينكر دوره حتى وإن اختلفنا معه)، وكان الأساس الذى تأسست عليه الجمعية الوطنية أنها المظلة المشتركة لجميع قوى المعارضة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار دون إقصاء أو تهميش لأحد، وتمثل ذلك فى المطالب السبعة التى عُرفت ببيان التغيير، وقد حمل المطلب رقم 7 المطالبة بدستور ديمقراطى يعبر عن جميع أبناء الشعب المصرى دون التمييز أو التفرقة، ولجنة متوازنة تصوغه لتعبر عن ذلك. فى كل ذلك كان الإخوان موجودين فى حركة المعارضة، إلا أن مصلحتهم الخاصة ورغبتهم فى السلطة جعلتهم يلعبون لصالح تلك المصلحة الخاصة، ولو على حساب الثوابت الوطنية، فقد كانوا شركاء لنظام مبارك من خلال الاتفاقات التى أبرموها معه منذ انتخابات 2005 بنص حديث مرشدهم مهدى عاكف، ثم انتخابات 2010، ثم الذهاب إلى عمر سليمان، والاتفاق معه مقابل مطالب رخيصة على حساب دماء الشهداء والثورة واستحقاقاتها، ثم اتفاقاتهم مع المجلس العسكرى. وحينما وصلوا إلى السلطة أرادوا تزوير التاريخ، مستغلين فى ذلك ماكينتهم الإعلامية التى روجت أكاذيبهم، وأنهم من قاموا بالثورة، ومن حموا الميدان فى موقعة الجمل، وصدّق الناس ذلك. فكان لزامًا علىّ أن أكتب، وأروى ما كنت شاهدًا عليه، شهادة مجردة دون تحيز إلى طرف على حساب طرف، لكنها الحقيقة كما هى، وكما رصدتها. لتكون شهادة أمام الله والناس والتاريخ. المجد والخلود للشهداء. 1- قصة أول بيان من الميدان إلى الجيش المهندس يحيى حسين اقترح إصدار بيان موجه إلى الجيش يدعوه إلى الضغط على مبارك وإجباره على التنحى وصاغ البيان عبد الجليل مصطفى وأحمد بهاء الدين شعبان ووائل نوارة فى التاسعة من صباح يوم الإثنين 7 فبراير 2011 عقدت الجمعية الوطنية للتغيير اجتماعها اليومى فى عيادة الدكتور عبد الجليل مصطفى بباب اللوق، وذلك لمناقشة التطورات ووضع الميدان وما به من أمور ومستجدات وصيرورة الثورة، وكان الأمر قد بلغ ذروته والأحداث ازدادت حدة خصوصا بعد موقعة الجمل والحوار مع عمر سليمان وتوزيع بيان لجنة الحكماء بعد اجتماعها مع عمر سليمان، الذى يدعو المتظاهرين إلى إخلاء الميدان والاكتفاء بنقل صلاحيات مبارك إلى نائبه عمر سليمان.
كان الاجتماع صاخبا بسبب تلك الأحداث، وكان لا بد من إيجاد مخرج حقيقى للأزمة ولا بد من الضغط على مبارك لتنحيته عن السلطة، بدأ الاجتماع وعرض الدكتور عبد الجليل تصوره للأوضاع والتطورات، وتحدث بعده الأستاذ صلاح عدلى وقال إنه لا بد من الاستمرار فى الضغط ولا بد من إيجاد وسائل مختلفة لرفع الروح المعنوية للميدان، ثم تحدث بعده المهندس يحيى حسين عبد الهادى قائلا: إننا أصدرنا بيانات فى الأيام الماضية تخاطب الميدان والمعتصمين به، ولم نخاطب الشعب مباشرة أو حتى الجيش، لا بد أن نوجه بيانا للجيش المصرى نوضح فيه أنه جزء أصيل من هذا الشعب، ولا بد أن يستجيب لثورة الشعب والضغط على مبارك لتنحيته من السلطة، وقد قابلت الفكرة اعتراضا من البعض، وبأنه لا يمكن أن نستبدل العسكر بمبارك ونحن نسعى إلى تكوين دولة مدنية يكون العسكر خارج الحكم فيها، وذلك حتى لا نكرر سيناريو 1952 لأننا سئمنا الحكم العسكرى.
عند هذه النقطة تدخل المهندس أبو العز الحريرى، وقال علينا أن نصدر بيانا يتضمن مطالب الثورة والتأكيد عليها مرة أخرى، ونوجهه لمن هم خارج الميدان أى الشعب والجيش معا، دون أن نستقوى بطرف على طرف آخر حتى لا نكون دعاة لانقلاب عسكرى.
بدا الأمر واضحا الآن، وأنه لا بد من توجيه خطاب للشعب المصرى والجيش يؤكد مطالب الثورة، ولا بد أن يلتف الجميع حولها. وقد صاغ البيان كل من الدكتور عبد الجليل مصطفى والمهندس أحمد بهاء شعبان، والمهندس وائل نوارة، وجاء البيان كالتالى: «الجمعية الوطنية للتغيير
القاهرة 7 فبراير 2011 البرلمان الشعبى لجنة متابعة تحقيق مطالب انتفاضة التغيير بيان إلى الشعب والجيش المصرى
فى لحظة حالكة من عمر هذا الوطن، حيث ساد الفساد والاستبداد، وسيطرت قلة من لصوص المال العام والمرتشين والفاسدين والمحتكرين والعملاء على مقدرات الشعب المصرى، الأمر الذى أدى إلى شيوع الفقر والمرض والتخلف وانعدام الأمن وزرع الفتن الدينية بين أبناء الشعب، وسد جميع أبواب ومنافذ الأمل أمام عشرات الملايين من أبناء شعبنا وفى مقدمتهم الشباب، الذين يشكلون أكثر من ثلثى الشعب المصرى، وهم أصحاب الحق الأصيل فى صياغة مستقبل هذا الوطن، خرج الملايين من أبناء شعبنا وفى طليعة صفوفهم الشباب، فى ثورة عظيمة استطاعت أن تزلزل أركان النظام، وأن تهزم أداة قمعه الشرسة، التى روعت الشعب ومارست أبشع أشكال القهر والتنكيل والتعذيب والقتل فى مواجهة أبناء الوطن الشرفاء.
ومع استمرار هذه الثورة التى عمت كل أرجاء الوطن، لم يتورع النظام عن قتل ما يزيد على 350 شهيدا، وإصابة أكثر من 5000 جريح، فى صدامات دامية، استخدمت فيها الآلة القمعية للنظام القوة الغاشمة والنيران الحية، ولكنها فشلت فى وقف زحف الثورة، بفضل استبسال جماهير شعبنا وشبابنا البطل، الذين دفعوا من دمائهم وأرواحهم ثمنا غاليا لحرية الشعب.
كما عمد النظام إلى اتخاذ مجموعة من التدابير الإجرامية للتجويع والترويع وإشاعة الفوضى، بإطلاق سراح المجرمين من السجون والدفع بالبلطجية وعناصر من المباحث والشرطة السرية إلى الشوارع، لترويع الآمنين، ونهب ثرواتهم، وتخريب الممتلكات العامة والخاصة، وفرض حظر التجول، وتعطيل مؤسسات المجتمع والمصالح والبنوك والشركات، وإيقاف وسائل المواصلات والنقل، وتعطيل الإمدادات الغذائية والخدمات، وقطع وسائل الاتصال التليفونية وشبكة الإنترنت، مع استخدام آلته الإعلامية المضللة فى شن حرب نفسية خبيثة على الشعب، لتسويق خطته فى الاستمرار على سدة الحكم، بدعوى محاربة الفوضى ودعم الاستقرار، كما دفع بعناصر إجرامية مسلحة لاقتحام ميدان التحرير فى محاولة يائسة لفض الاعتصام، والقضاء على الثورة بالعنف.
وإزاء فشل القبضة الأمنية وسياسات الترويع والتجويع فى إجهاض ثورة الشعب، وفى محاولة من النظام للالتفاف على الثورة الشعبية، لجأ إلى تقديم بعض الوعود الجزئية، والقيام ببعض التغييرات الشكلية، التى لا تمس جوهره الاستبدادى، ولا تغير من طبيعته القمعية الاحتكارية، ولا تصلح من بنيته الفاسدة، ولا تعيد للشعب حقه المسلوب فى أن يمتلك إرادته الحرة، وأن يتمتع بخيرات بلاده، التى نهبها تحالف سلطة الاستبداد مع لصوص المال العام، على امتداد العقود الماضية.
لقد أفصحت الإرادة الشعبية عن مطالبها بوضوح وإجماع وطنى ظهر بتلقائية من خلال الشعارات والهتافات التى رددتها المظاهرات المليونية فى ميدان التحرير وشتى أرجاء الوطن، والتى تتمثل فى:
• رحيل حسنى مبارك عن الحكم. • الاعتراف الواضح والمباشر بشرعية ثورة 25 يناير ومطالبها. • إنهاء حالة الطوارئ، والقوانين المعادية للحريات. • تفكيك الآليات القمعية للنظام، وفى مقدمتها جهاز مباحث أمن الدولة، ومحاكمة مسؤوليه عن جرائمهم فى حق الوطن والشعب. • حل المجالس المحلية ومجلسى الشعب والشورى لأنها أتت بالتزوير. • تشكيل حكومة إنقاذ وطنى لتنفيذ مطالب الثورة.
• اختيار لجنة تأسيسية، تضع دستورا جديدا للبلاد يقر الحقوق الديمقراطية للشعب ويحمى مطالب الثورة وأهدافها.
إن تحقيق هذه المطالب يضمن أن تستعيد مصر مكانتها وعافيتها ودورها الريادى وسط وطنها العربى والمنطقة والعالم، فى مواجهة مؤامرات الصهيونية والإمبريالية، كما تكفل لشعبنا أن يسترد حقه الأصيل فى صياغة سياسات اقتصادية واجتماعية جديدة، تضمن حياة كريمة لكل مصرى ومصرية، وتكفل القضاء على الفقر والبطالة، وتضع حلولا ناجزة لمشكلات تدهور التعليم والصحة والعشوائيات والبيئة.
وزعم النظام أنه قد استجاب لمطالب الشعب بتلك التغييرات الجزئية، والإيهام بأنه قد فتح قنوات للحوار مع ممثلى القوى السياسية، وهو فى كل هذا مستمر فى مسلسل أكاذيبه وطرق خداعه التى درج عليها.
يا أبناء شعبنا العظيم، إن الضمان الأساسى لتحقيق هذه المطالب التى استشهد من أجلها خيرة أبناء شعبنا هو استمرار الضغط الشعبى فى الشارع، حتى يتم تحقيقها، ومواجهة كل المؤامرات التى تسعى لإجهاض الثورة، وتصفية روح المقاومة الشعبية، وإعادة الأوضاع لما قبل 25 يناير.
ويا أبناء جيشنا العظيم، نريدكم عونا لأبناء شعبكم فى مواجهة حكم الاستبداد والتسلط والفساد، نريدكم حماة لمطالب شعبنا التى عبر عنها فى ثورته، ونثق فى أنه لن يتم استخدامكم لضرب ثورة الشعب، ولقمع حقه فى الحرية والعدل، ولإجهاض تطلعه إلى غد مشرق لأبنائه».
لجنة متابعة تحقيق مطالب انتفاضة التغيير.
2- أربعين لشهداء كنيسة القديسين فى التحرير كثير من الشباب المعتصمين بالميدان واجهوا مأزقا صعبا حيث نفدت نقودهم وحاولت الجمعية معالجة الموضوع فأرسل حمدى قنديل سيارة بطاطين وزعناها فى الميدان يوم الثلاثاء 8 فبراير 2011 واجهت الجمعية الوطنية للتغيير مأزقا بدأ يواجه كثيرا من المعتصمين بالميدان، وهو نفاد نقود عدد كبير منهم.
كانت هناك لجنة إعاشة للجمعية الوطنية للتغيير داخل الميدان بالاشتراك مع شباب حملة البرادعى، وحاولت اللجنة تغطية احتياجات المعتصمين قدر الاستطاعة، وفى وسط النهار جاء المهندس يحيى حسين عبد الهادى ونقل إلى الدكتور عبد الجليل أن هناك عددا من المعتصمين بالميدان قد صرفوا كل ما لديهم من نقود، ولم يعد متبقيا معهم شىء، وهم فى احتياج إلى المال، فقام الدكتور عبد الجليل بالاتصال بالأستاذ حمدى قنديل وشرح له الموضوع، فأرسل لنا سيارة مملوءة بالبطاطين التى قمنا بتوزيعها فى ميدان التحرير.
بعدها أعطى الدكتور عبد الجليل المهندس يحيى حسين مبلغا من المال «نحو 13000 جنيه» ليقوم بإعطائه للمعتصمين الذين نفدت نقودهم فى الميدان، وكان ميدان التحرير فى تلك الفترة قد امتلأ بالخيام، حيث برزت بصورة واضحة وكبيرة، فتوجه المهندس يحيى حسين بعد العشاء إلى ميدان التحرير ليقوم بتأدية تلك المهمة، ومكث حتى الفجر يتحدث مع المعتصمين حول آرائهم واحتياجاتهم، وعلى حد تعبيره: «كان الجو لطيفا ومليئا بالضحك لخفة دم المصريين»، وبعد أن ظل معهم لفترة، حاول أن يعطيهم مبلغا من المال لكنهم كانوا يرفضون هذا تماما، وقال: «هذا أدهشنى ورجعت بالمبلغ كاملا لا ينقص منه شىء» وهنا تسقط أكذوبة الدولارات والكنتاكى التى روج لها نظام مبارك.
الإعداد لقداس الأربعين لشهداء كنيسة القديسين: ذكرت فى حلقة سابقة أن الجمعية الوطنية للتغيير كانت قد قررت فى آخر اجتماعاتها قبل الثورة إقامة قداس بمناسبة ذكرى الأربعين لشهداء كنيسة القديسين، وكلفت كلا من الأستاذ جورج إسحاق والأستاذة شاهندة مقلد لمتابعة الأمر، وحينما قامت الثورة توافقت ذكرى الأربعين يوم 9 فبراير بوجود المعتصمين داخل ميدان التحرير مطالبين بإسقاط نظام مبارك.
وفى ليلة التاسع من فبراير تلك، كنا نعد لهذه الاحتفالية، فقدم إلى عيادة الدكتور عبد الجليل الدكتور هانى حنا وبرفقته شابان لترتيب الأمر من على منصة ميدان التحرير، فقال الدكتور هانى حنا: إن هناك فرقة ستقوم بأداء تراتيل القداس والصلوات فى الميدان وعدد من الكلمات التى ستلقى فى أثناء القداس، إضافة إلى بعض التفاصيل الأخرى.
وبالفعل أقيم القداس فى قلب الميدان، وقد كانت هناك كلمة رائعة للمفكر القبطى الكبير الدكتور كمال زاخر جاء فيها: «لقد ظن الناس أن سنة 2011 سنة شؤم لكنهم لم يعرفوا أن هذه السنة قد تعمدت بدماء الشهداء، ولم يعد هناك من اليوم مسلم ومسيحى بل مصرى.. فقط مصرى، إن هذا الفراغ صنعه النظام، ونحن الآن معتصمون فى الميدان لم تحدث حادثة هجوم واحدة على الكنائس، إن العساكر الذين يقفون على الكنائس، والأهالى الذين يسكنون بجوارها من المسلمين قالوا لنا لا تقلقوا على الكنائس أبدا وسنحميها لأنها بيوتنا، إن النظام يراهن على الوقت وأننا سنمل وسنرحل، أقول لهم إننا صابرون ولن نمل أبدا.. أهلا بكم فى ميدان التحرير ميدان كل المصريين».