لم أعد أفهم شيئاً ولم أعد أعرف ماذا أفعل؟ في العام الماضي نشرت الصحف المصرية قصة الطبيبين اللذين وقعا في براثن السلطات السعودية، وكيف لم تتردد تلك السلطات في الحكم عليهما بالسجن والجلد بالسياط عدة آلاف من الجلدات لكل منهما!.كانت الصحف تنشر كل يوم عن دموع الزوجتين والبنات والأبناء وحكاياتهم التي تمزق نياط القلب ساردة الوحشية التي يتعرض لها الرجلان في سجون المملكة وهي تحكم علي الناس بالهوي والمزاج!. ومما أكد للناس في ذلك الوقت حكاية الهوي والمزاج أن الأخ القاضي الذي أدانهما وقضي بضربهما بالسياط صرّح للصحف قائلاً: لو أن المتهمين كانا سعوديي الجنسية لضاعفت لهما العقوبة!!. هنا أدرك الجميع أن الأحكام تصدر هناك علي ضوء جنسية المتهم وربما لونه ورائحته ونوع ثيابه!. أذكر وقتها أنني انفعلت وتفاعلت مع المأساة الشخصية للرجلين وكتبت وشراييني تكاد تنفجر مهاجماً (ليس إدانة الطبيبين) ولكن ضربهما بالكرباج، ذلك أنني لم أقتنع أبداً بمسألة أن السعودية تطبق شرع الله وأن الضرب بالكرباج هو جزء من هذا الشرع، ببساطة لأنني تعلمت من الإسلام والمسيحية والبوذية والكونفوشية أن من يستدعي القوات الأجنبية لاحتلال بلاده وضرب أهله وغزو بلادهم لا يحق له أن يتحدث عن شرع الله ولا يجوز أن يضرب الناس بالكرباج منفثاً عن أحقاده تجاه المصريين متذرعاً بالشرع، وهو الذي لا يستطيع أن ينفذ هذا الشرع علي مواطن أمريكي مثلاً!. ثم تمر الأيام ويخرج الطبيبان من محبسيهما ويعودان إلي الوطن من خلال صفقة غير معلنة، ونتوقع أننا سنراهما في مدينة الإنتاج الإعلامي ينتقلان من دريم إلي المحور والحياة وباقي الفضائيات، كما توقعنا أن يكونا نجمي الصفحات الأولي بالصحف اليومية والأسبوعية لفترة طويلة. ولكن لدهشة الناس يتم إلقاء مأجور كبير فوق الخبر ولا تنشر الصحافة شيئاً عن الأهوال التي توقعنا أن الرجلين سيسردانها عن أيامهما في معتقل المغول. بل الأغرب أن الحديث المقتضب الذي أدلي به أحدهما أوضح فيه أن المعاملة بالسجن كانت طيبة للغاية والطعام شهي والرعاية الصحية ممتازة والضرب لم يكن بكرباج أو سوط كما نظن، لكن كان بخرزانة صغيرة ولم يكن مؤلماً بالمرة!. وقتها شعرت أنني غريب عن هذه الحياة وتساءلت: ما هذا الذي أفعله بنفسي؟.. هل كان الطبيبان يرفلان في جنة أبناء عبد العزيز، بينما أنا جالس بعضي يمزق بعضي لهفاً عليهما؟. و منذ أيام قليلة يفجعنا خبر الزيارة التليفزيونية التي قام بها وزير التعليم لإحدي مدارس حدائق حلوان، ويراه الناس علي شاشات التليفزيون وهو يبعثر كرامة الناظر والأساتذة، كما قرأنا عن حارس المدرسة الذي شتمه الوزير وتوعده بالضرب بالجزمة. و مرة أخري أجد عروقي تنفر وضغطي يرتفع والأدرينالين يصل لمعدلات تسمح بخوض المعارك، فأكتب مناصراً الأساتذة الذين ذبح الوزير كرامتهم وبعثر كبرياءهم أمام الشاشات وهو يحاول الإيحاء بأنه يعيد الانضباط للعملية التعليمية!. ولكن بعد أيام أفاجأ بالصحف تنشر أن الأساتذة الذين أخذوا الطريحة علي الملأ يطلبون لقاء الوزير لطلب الصفح والغفران، ويشهدون بأنه كان محقاً في كل ما فعله بهم، ويبدون استعدادهم لبوس القدم وإبداء الندم علي غلطتهم في حق الوزير!. حقيقة أنا لا أدري ماذا أفعل، ولا أعرف ماذا يريد هؤلاء الناس أن يفعلوا بي؟. هل يريدون أن يثبتوا لي أنني علي خطأ في تعاطفي معهم وأنهم يستحقون كل ما يحل بهم؟. هل يريدونني في المستقبل أن أقف مسانداً لمن يضربهم بالجزمة؟. أنا أعرف أن طول القهر قد جرد الناس من الفضائل، ولكن ماذا أفعل؟. إن هؤلاء الناس لا يدركون أنني أصل أحياناً لدرجة من الاحتقان أخشي معها علي حياتي، وأحياناً أبكي بصوت مسموع بينما أكتب!. أنا لا أطلب من الناس أن يواجهوا كربلاءاتهم اليومية بشجاعة الإمام الحسين..لكنني لا أستطيع أيضاً أن أحيا وسط 80 مليونًا من مناصري يزيد!.