قطعاً.. لن تنفذ الحكومة ولا النظام الذي اخترعها من العدم حكم محكمة القضاء الإداري الأخير الذي يلزمهما بفرض حد أدني للأجور لا يقل شهرياً عن 1200 جنيه، وهو مبلغ مساوٍ تماماً لقيمة الدخل المتعارف عليه عالمياً (200 دولار) باعتباره يمثل ما يسمي ال«subsistence minimum» أو «حد الكفاف» الفاصل بين الفقر و«العدم» الكامل حيث الحياة الإنسانية الكريمة، أو ربما «مجرد الحياة» أمر صعب جداً وقد يلامس حدود المستحيل. غير أن الحالة المصرية القائمة فعلاً تجعل المبلغ المذكور لا يلبي أهم الشروط التي علي أساسها افترض اقتصاديون أنه يوفر القدرة الدنيا للوفاء بأبسط احتياجات الإنسان، أي شرط أن يكون هذا المبلغ مخصصاً لإنفاق فرد واحد فقط، فإذا ما علمنا أن أقل تقدير لمتوسط الإعالة التي تثقل كاهل المواطن المصري العامل أو العاملة لا يقل بحال عن ثلاثة أفراد (وقد يزيد كثيراً) فمعني ذلك أن رقم ال1200 جنيه لن يغني أو يسمن من جوع حقيقي يضرب ويسحق حاليا نحو 40 في المائة من سكان البلد. ومع ذلك وبالرغم من هذه المعطيات التي تخزق عين الأعمي فإنني أكرر الجزم بأن النظام وحكومة سيادته لن ينفذا الحكم القضائي آنف الذكر أبداً، ليس طبعا للأسباب الكاذبة والحجج الفارغة التي يرددها النصابون العاملون في خدمتهما نظير أجر معلوم وبقلاوة لا أول لها ولا آخر، وإنما لأسباب أخري يعرفها القاصي والداني وأهمها الطبيعة الجنائية (لا الرأسمالية) لهذا النظام والتي تظهر واضحة جلية من أول لحظة تأمل في جنس ونوعية النخبة الحاكمة وقطعان الأتباع المعششين الآن في أركان الدولة ومفاصلها الرئيسية خصوصاً السلطتين التشريعية والتنفيذية، فالنسبة الغالبة من هؤلاء نزحوا وراكموا ثروات طائلة عبر أطول حادث سطو سياسي واقتصادي في تاريخنا المعاصر والحديث كله، انتهي إلي تحويل مؤسسات صناعة التشريع والسياسات إلي أشياء بعضها يشبه «طفاشة» فتح الأبواب والخزائن وبعضها الآخر يكاد يماثل الأدوات التي يستخدمها«الهجامة» في تسلق «مواسير الوطن» بالليل والدنيا ضلمة !! باختصار.. لقد صرنا نتفرد بين الأقوام والأمم التي تعيش معنا حالياً علي ظهر هذا الكوكب بحالة نادرة وعجيبة حقاً أقوي ملامحها أن حفنة من المليارديرات المتخمين المنتفخين يتحكمون ويحكمون بالعافية وبقوة القمع والقهر والتزوير شعباً يفترسه البؤس والفقر والجوع والحرمان والتأخر، ولا سبب أو وسيلة لبقاء الحفنة الأولي ترقد وترفل في هذا النعيم إلا أن يستمر الشعب في هذا الحجيم، ولا يوجد حل وسط بين الاثنين. إذن ضرب من ضروب الجنان الرسمي أن يظن أو يتوقع أحد ألا تتهرب الحكومة من تنفيذ حكم المحكمة القاضي بضرورة التعديل الجذري لهياكل الأجور المزرية والمشوهة القائمة (التي يتقاضاها من يعملون أصلاً) والتي فاضت نتائجها الكارثية وتجاوزت مجرد شيوع البؤس والعدم إلي تخريب وتحطيم شامل لمنظومة القيم والأخلاق السائدة في المجتمع لدرجة أن التسول و«الرشوة» وبيع واجبات الوظيفة العامة اكتسبت جميعاً مشروعية واقعية وضميرية بعدما أصبحت قانوناً صارماً ولازماً لبقاء شرائح وطبقات بأكملها علي قيد الحياة في هذا الوطن.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.