اللقاء يتم أسبوعيا والمكان غير محدد، كل ما يهم هو أن يكون مكانا يسمح بالكرتلة واللف في غفلة من أعين الرقباء، كل شيء جائز إذن، شقة إيجار قديم لا يذهب إليها أحد، سيارة ضيقة في طريق ينقصه أمناء الشرطة، حديقة يؤمن حارسها بأهمية الارتفاع عن الواقع الحسي ومعايشة التجربة الغنوصية العرفانية، الأسبوع الماضي مثلا كان لقاؤنا خلف قسم العمرانية، أعني أحد المقاهي التي تقع خلف القسم، لا آمن كثيرا لفكرة الشرب في المقاهي خصوصا أن تجربتي في الاتفاقات مع صبي القهوة كانت مثل الاتفاقات السياسية، قابلة للنقض في أي وقت، لكن القطعة كانت جاهزة والمكان البديل غير متوفر فضلا عن تأكيد الأصدقاء بأن هذا المقهي آمن تماما وأنه علي ضمانتهم، أذهب متوجسا وأراه من الخارج، مثل أغلب المقاهي الحقيرة في منطقة الهرم والطالبية يقع المقهي المنشود في مستوي أدني من الأرض يجعلنا ننظر للسائرين في الشارع من أسفل، دفء نسبي وهدوء وصوت أم كلثوم تغني بعيد عنك يعطي الجو نكهة مميزة، تدور السيجارة من يد إلي يد في صمت مطبق وبعد نفسين يستولي عليّ شعور طاغ بأن عمري ضاع هباء وبلا ثمن، حالة يعرفها كل من يشرب في حالة نفسية غير مستقرة، أقول مقاطعا هذا الصمت.. - يا جماعة، نريد أن نفعل شيئا. يجيبني أحدهم بشخرة معتبرة غاضبا من قطع الصمت قائلا: - ماذا تريد يا ابن المجنونة، اشرب وانت ساكت. أجيب في إلحاح: - أنا أتكلم بجد، لنفعل أي شيء، لنكتب فيلما مثلاً. شخرة أخري فأتراجع عن الفكرة، كنت ( بمناسبة أجواء الدخان الأزرق) سأقترح كتابة فيلم تسجيلي عن سيد درويش لكن يبدو أن الجو غير مناسب لطرح الفكرة، رحم الله فنان الشعب، يشعل صديق آخر سيجارة ثانية ويقول: - حكاية الأفلام هذه غير مضمونة بالمرة، فلنكتب ديوان نثر عامية أو رواية، الجميع الآن يكتبون روايات. لم يعترض أحد فينطلق في حماس وهو يشد نفس الافتتاحية من السيجارة الثانية باحتراف: - رواية أفضل، نحن الآن في زمن الرواية، لتكن مثلاً عن هذا المقهي، مقهي تحت الأرض يواجه قسم العمرانية، والذي يجلس فيه الناس ينتظرون زيارة أقربائهم أو دخول المحامين، بينما نجلس هنا نحن الأربعة المهتمين بالروايات والأدب نتكلم عن رواية نؤلفها. - ونطلق علي المقهي اسم «ملتقي القلوب الصافية» حتي نعطيها بعدا صوفيا. - وربما يمنعها الأزهر أو مجمع البحوث الإسلامية فيتحقق لك النجاح والشهرة. يجيب آخر بتشكك: -ملتقي القلوب الصافية؟ ألا توحي بأجواء إسلامية تصرف عنها الناشرين؟ - خلاص، نطلق عليها مقهي «الحشاشين»، «ملتقي القلوب الصافية» سابقا ننطلق في الضحك، يا سلام يا سلام عالسطل، تتسرب إلينا الحماسة دفعة واحدة، أقول: - فلنجعل بطل الرواية شخصا يوصي بأن يكفن في ورق بفرة بدلا من الكفن القماش. - حسنا، هذه البداية تبدو رائعة، لا بد أن تنتهي الرواية بتساؤل. - أحب الروايات التي تنتهي بسؤال، تبدو عميقة وفلسفية. - نجعل البطل يتساءل في نهاية الرواية، هل كان الأمر يستحق أن أبحث عن كل هذه البفرة. - أو نجعله يخاطب السماء في نهاية الرواية، ها أنا أتيت لك ملفوفا بالبفرة كما أرادت المشيئة. - مشيئة من؟ السماء أم الرجل؟ - لن نوضح ذلك، فلنتركه للقارئ فيبدو له أن الرواية بها رؤية ما. - القارئ، يا لتفاؤلك؟ وهل تظن أن أحدا سيقرؤها؟. - يا سيدي، نعمل لها صفحة علي الفيس بوك ونقول إنها باعت 6 طبعات. انظر للقهوجي بعين روائية، رجل بائس يبدو أنه لن يغادر هذا المكان أبدا مكتفيا بعالمه الخاص الجميل، أقول: - هذا القهوجي يبدو شخصية جذابة للغاية، فلنجعله من أبطال الرواية. وأضيف (متأثرا بالفيلم الذي كنت أشاهده طوال الليل) - فلنجعله مدمنا لأفلام البورنو، التشوهات السلوكية تعطي الشخصية الروائية مصداقية لدي القارئ. - إن كان علي التشوهات فلنجعله مدمنا لممارسة الجنس مع الحيوانات. - مع القردة التي يربيها في المقهي. - قهوجي أم قرداتي؟ - كان قرداتي، لكنه أصبح قهوجيا بعد التأميم ننفجر ضاحكين في صهللة ونقرر ألا نتعامل مع ديلر آخر غير هذا الديلر، أقول: - علي اعتبار أن الثورة أممت القرود، حلوة والله وستضيف للرواية بعدا تاريخيا. - ونجعله ساخطا يشتم التوريث، ربما يقبض علينا أمن الدولة ونطلع في العاشرة مساء. يصفق أحدهم صائحا: أحب مني الشاذلي. - وكي نعطي الأمر بعدا فلسفيا، نسمي الرجل شوبنهور. - ونسمي القردة نيتشة، نيتشة كان ينكر الموت. نستغرق جميعا في الضحك، وننظر للمقهي الحقير الذي نحن فيه وكأنه قصر يضج بالموهبة والخلق والعنفوان. وهكذا، وهكذا ولد الهيكل العام للرواية، رجل يموت في مقهي الحشاشين «ملتقي القلوب الصافية سابقاً» ويوصي بأن يكفن في ورق بفرة، صديقه الذي سيحاول تحقيق حلمه هو القهوجي شوبنهور الذي كان يمارس الجنس مع القردة نيتشة، وهو من ضحايا التأميم الذي ذهب بثروته ومهنته العظيمة السابقة، قرداتي لكن الذي حدث ببساطة أن الحشيش اختفي من الأسواق بشكل غير مفهوم وغير مسبوق الفترة الماضية، حاولنا أن نكتب لكن عدم وجود الحشيش كان يعني توقف المشروع إلي أجل غير مسمي ولا أزال كلما أفكر في المسألة يأتي علي بالي خاطر أن المسألة مؤامرة من النظام علي المثقفين بشكل عام وعلي مشروعنا بشكل خاص، مؤامرة لتعطيل روايتنا التي كانت ستفضح التوريث وتكشف المسكوت عنه في قضايا الدين والحياة والسياسة، من يدري، أليس احتمالا واردا علي كل حال؟