ما يحدث في القدس أظهر ضعف أوباما أمام خليفة رئيس الوزراء الإسرائيلي عبد البارى عطوان يبدأ السيناتور جورج ميتشل- مبعوث السلام الأمريكي- جولة جديدة في المنطقة، حيث سيحط الرحال في تل أبيب، ومن ثم يعرج علي رام الله مقر السلطة، في محاولة جديدة لإحياء المفاوضات غير المباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين. السيناتور ميتشل سيلتقي حتماً بنيامين نتنياهو- رئيس الوزراء الإسرائيلي- الذي يعيش أسوأ حالاته هذه الأيام، ولكن من غير المعروف ما إذا كان سيلتقي الرئيس الفلسطيني محمود عباس، الذي قيل إنه يعتكف حالياً في منزله في العاصمة الأردنية بعد «تزحلقه» في حمام منزله الآخر في تونس، مما اضطره للعودة إلي العاصمة الأردنية لمراجعة الأطباء فيها. وعكة الرئيس عباس هذه ربما تكون سياسية، فالرجل انتظر عدة أيام في تونس لعله يحظي بدعوة من الزعيم الليبي لزيارة طرابلس وإغلاق ملف الخلاف معه قبل انعقاد القمة العربية، ولكن انتظاره طال والدعوة لم تأت. ومن الجائز أن الرئيس عباس فضّل «الحرد» والابتعاد عن «الطبخة» الأمريكيةالجديدة، فكيف يعود إلي مفاوضات غير مباشرة والقدسالمحتلة تشهد مواجهات دموية بين القوات الإسرائيلية والمرابطين المدافعين عن مقدساتها التي تتعرض لعمليات تهويد متسارعة. أحوال الزعماء العرب ليست علي ما يرام، فها هو الرئيس المصري حسني مبارك يتعافي من عملية جراحية لإزالة «أورام» من أمعائه، وها هو الرئيس الفلسطيني «يتزحلق» في حمام منزله، ويقرر عدم العودة إلي رام الله، حتي الآن علي الأقل، أما حالة الهرم التي يعيشها زعماء عرب آخرون فلا تحتاج إلي الكثير من الشرح، فنسبة كبيرة من هؤلاء يعيشون في أواخر السبعينيات والثمانينيات من أعمارهم. القاسم المشترك بين الرئيسين المصري والفلسطيني هو أنهما لم يعيّنا نائباً لهما، فالأول يريد توريث نجله، والثاني وإن بدأت الفكرة تراوده فإن الوقت لا يسعفه ولا يملك دولة بعد وفوق كل هذا وذاك فإن بديله، أي الدكتور سلام فياض بات جاهزاً. اللجنة الرباعية الدولية، التي انعقدت في موسكو أمس بحضور وزراء خارجية أمريكا وروسيا والاتحاد الأوروبي والأمين العام للأمم المتحدة، مهدت الطريق لجولة ميتشل هذه بإصدار بيان قوي يدين العمليات الاستيطانية الإسرائيلية في القدسالمحتلة، وتحديد مهلة زمنية مقدارها ثلاثة أسابيع لاستئناف المفاوضات غير المباشرة. نختلف مع كثيرين اعتبروا موقف اللجنة هذا 'مجرد مسرحية' لا ينطوي علي أي نيات جدية، بسبب العلاقات الاستراتيجية القوية بين واشنطن وتل أبيب، ففي رأينا أنه- أي إدانة ممارسات حكومة نتنياهو الاستيطانية في القدس وغيرها- تعكس قلقاً كبيراً من جراء تدهور الأوضاع في المنطقة بشكل عام، والأراضي العربية المحتلة بشكل خاص. الهبّة الشعبية العارمة في القدسالمحتلة التي تجسدت في تدفق الآلاف من أبناء القدس والمناطق المحتلة عام 1948 باتجاه الأقصي لحمايته، والتضامن العربي المتنامي مع هؤلاء المرابطين، وعودة صواريخ المقاومة لتضرب تجمعات إسرائيلية في عسقلان والنقب، كلها مؤشرات عن قرب حدوث الانفجار الكبير في المنطقة. الإدارة الأمريكية التي أهينت من قبل حليفها الإسرائيلي المتغطرس، تشعر أن الجهود الضخمة التي بذلتها لتحسين صورة بلادها في العالم الإسلامي لم تفشل في تحقيق أهدافها فقط، بل بدأت تعطي نتائج عكسية تماماً، وبدأت حالة الكراهية لأمريكا تبلغ معدلات غير مسبوقة، بعد أن اتضح مدي ضعف الرئيس الأمريكي باراك أوباما أمام حليفه نتنياهو، وعجزه الكامل عن ترجمة أي من وعوده بتغيير السياسة الخارجية الأمريكية علي أساس الاحترام والمصالح المتبادلة. نتنياهو ألحق ضرراً كبيراً بالإدارة الأمريكية من خلال إهاناته المتواصلة لها ولقياداتها، انطلاقاً من إيمانه الراسخ بأنه أقوي من الرئيس أوباما لسيطرته الكاملة، من خلال اللوبي اليهودي، علي المؤسسة الأمريكية الحاكمة، ودائرة صنع القرار فيها، والمقصود هنا الكونجرس بمجلسيه (النواب والشيوخ) واللوبيات الاقتصادية والدينية والإعلامية الأخري. الجنرال الأمريكي ديفيد بترايوس- قائد القوات الأمريكية في الشرق الأوسط- كان الأكثر جرأة من رئيسه عندما قال في شهادته أمام الكونجرس مؤخراً إن إسرائيل لم تعد ذات قيمة استراتيجية للولايات المتحدة، وإن ممارساتها الاستيطانية باتت تهدد أرواح الجنود الأمريكيين في العراق وأفغانستان. وجود توني بلير- رئيس وزراء بريطانيا السابق- والصديق الصدوق لإسرائيل في اجتماعات اللجنة الرباعية في موسكو هو الخطر الحقيقي علي المنطقة وطموحات أبنائها، فمهمة هذا الرجل تنحصر في امتصاص أي غضبة عربية أو أمريكية تجاه إسرائيل، وهو صاحب مشاريع السلام الاقتصادي، ويعتبر الخبير الأكبر في كيفية تزوير الحقائق، وبناء السياسات المشبوهة علي أساس الأكاذيب. الإدارة الأمريكية تعيش أسوأ أيامها أيضاً في العالمين العربي والإسلامي، فهي تريد المعتدلين العرب إلي جانبها في حربها الباردة او الساخنة المقبلة ضد إيران، ومخططاتها للبدء في حصار اقتصادي لا يمكن أن تنجح دون مشاركتهم وتوظيف أرصدتهم ونفطهم وغازهم في خدمتها، ولهذا لابد من امتصاص حالة الغضب الحالية في العالمين العربي والإسلامي بسبب التجاوزات الإسرائيلية الدموية في القدس، بالعودة وبشكل سريع إلي طاولة المفاوضات مجدداً. الانتفاضة العربية في القدسالمحتلة يجب أن تستمر وتتصاعد، وأن تحظي بالدعم وبشكل أكبر من قبل الشعوب العربية والإسلامية، فطالما أن الإسرائيليين يريدونها حرباً دينية تستهدف المقدسات الإسلامية، فليكن الرد عليها دينياً، إسلامياً ومسيحياً، بالقدر نفسه أو بطريقة أكبر. العرب والمسلمون انخدعوا أكثر من مرة بالإدانات الأمريكية، والوعود المعسولة بالسلام، لامتصاص الانتفاضات، أو لتهدئة الغضب وامتصاصه تجاه الحروب الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة، من أفغانستان وحتي العراق وفلسطين، وعليهم أن لا ينخدعوا مرة أخري، ويقبروا الانتفاضة الجديدة في مهدها وقبل أن تكبر ويشتد عودها. النظام الرسمي العربي الذي ظل مطيّة للمشاريع والخدع الأمريكية يعيش أسوأ أيامه أيضاً، لأنه نظام ثبت عجزه وفشله علي الأصعدة كلها، وبدأت الشعوب تتحرك في بعض البقع للتخلص منه، ولم يحدث أن سمعنا وشاهدنا ضغوطاً لإلغاء مبادرة السلام العربية مثلما نراها ونسمعها الآن. رجال الدين في العالم الإسلامي هبّوا في معظمهم لنجدة المدافعين عن الأقصي، ولكن اللافت أن نظراءهم في المملكة العربية السعودية- حيث انطلقت مبادرة السلام العربية هذه قبل سبع سنوات- ما زالوا يلتزمون الصمت، ولم تصدر عنهم فتوي واحدة تناصر المرابطين في القدس، والمدافعين عن المقدسات، وتطالب العاهل السعودي بسحب مبادرة السلام وتنفيذ وعوده التي قطعها علي نفسه أثناء قمة الكويت الاقتصادية، بأن هذه المبادرة لن تظل موضوعة إلي الأبد علي الطاولة. العاهل السعودي يجب أن ينتصر للمسجد الأقصي والحرم الإبراهيمي ومسجد الصحابي الجليل بلال ابن رباح، ويرد علي عمليات التهويد هذه بإطلاق رصاصة الرحمة علي المبادرة العربية التي حملت اسمه، وكان هو صاحبها وواضع خطوطها العريضة، فهو خادم الحرمين الشريفين، ولا يستقيم لقبه ومكانته دون حماية الحرم الثالث. رجال بيت المقدس وأكناف بيت المقدس الذين هبوا لحماية مقدساتهم والدفاع عنها بأرواحهم، وهم العزّل المحاصرون، هم الذين يقلبون كل المعادلات الاستراتيجية في المنطقة، ويفضحون الوجه العنصري الإجرامي الإسرائيلي، ويكشفون كم هو مكلف العبء الإسرائيلي علي كاهل الغرب والعالم، اقتصادياً وأخلاقياً واستراتيجياً. فهذه الدولة وممارساتها وجرائم حربها مصدر الغالبية الساحقة من التوتر واللا استقرار الذي يعيشه العالم حالياً، وآن الأوان لمواجهتها بجدية وصرامة وليس بالإدانات اللفظية فقط.