شاب بسيط من محافظة قنا، درس واجتهد والتحق بكلية الآثار، قسم آثار إسلامية، لم يكتفِ بهذا بل تفوّق، وكان من أوائل دفعته، وخرج إلى الحياة العملية ليبدأ حياته، بالتأكيد كان يحلم بوظيفة جيدة، ربما بإحدى هيئات الآثار، أو كمفتش للآثار الإسلامية، بل ربما حالفه الحظ فيعين في الجامعة معيدا يُدرّس المواد التي اجتهد وتوفق فيها.. ولكن وجد كافة الأبواب موصدة في طريقه، بينما أسرته بانتظاره كي يعولها يومًا بعد أن أنفقت عليه أقصى ما بوسعها لتعلمه، ولكن ها هو لا يستطيع حتى أن يعول نفسه.. ولكن الشاب لم يستسلم عند هذا الحد، فخلع بدلة مفتش الآثار التي لم يرتدِها، وارتدى بدلا منها أفرول العمل، ليس أي أفرول، إنه أفرول عامل المجاري، لقد دار الشاب على بالوعات المدينة المنسدّة، ليقوم بتسليكها، هبط في الماء المليء بالقاذورات، وغاص بين الروائح الكريهة، ونسي أنه يحمل شهادة جامعية، مزّقها في قلبه وعقله كي يعيش.. حتى مر عليه مصادفة صحفي ومقدم برنامج اجتماعي شهير ليرى هذا الحال المُزري الذي يعيش فيه، وسأله مندهشًا: كيف لحامل شهادة عُليا وطالب مجتهد ألا يجد عملا سوى هذا العمل؟! هنا فقط ظهر المسئولون فجأة، هنا فقط ظهر ذوو القلوب الرحيمة، هنا فقط اكتشفت هيئة الآثار أن هناك وظائف خالية يمكن لإحداها أن تستوعب ذاك الشاب المجتهد، هنا فقط تدخل السيد زاهي حواس شخصيًا حتى وضع الشاب في مكانه الطبيعي الذي يستحقه.. إن ما حصل عليه ذاك الشاب كان يستحق الحصول عليه بدون كاميرات البرامج التليفزيونية، كان يستحقه بشكل روتيني ودون تدخل من أحد. حال ذاك الشاب هو حال أغلب شباب مصر الذي يدخل الجامعة ليدرس، فيتخرج، ويحلُم بأن يكمل المسار الطبيعي المفترض لحياة أي شاب، أن يعمل ليطبق ما درسه ويبدأ حياته.. ولكن لا شيء من الأحلام يتحقق، قد لا يعمل في بالوعات المجاري، ولكنه لا يعمل في ذات المجال الذي درسه.. رغم عدم وجود إحصائيات موثقة لدى مركز التعبئة والإحصاء عن الشباب العاملين في وظائف لا علاقة لها بتخصصهم، فإن المركز قام بدراسة محدودة لتكون عينة ممثلة عن باقي التخصصات، أحصى بها نسبة الشباب الخريجين من كليات عملية تؤهلهم للعمل في المجال البحثي، ولكنهم يعملون في تخصصات بعيدة تمامًا عن تخصصهم حتى لو كان هذا التخصص نادراً ومطلوباً عالميًا، فوجد أن نسبة 49% من الباحثين الشباب يعملون في أعمال أخرى ليس لها أدنى علاقة بمجال تخصصهم، ووجد أن هؤلاء الشباب يقبلون بمثل هذه الوظائف وبالتخلي على أحلامهم بتطبيق ما درسوه، لسبب من اثنين: إما توفير التمويل اللازم لأبحاثهم، أو للحاجة والعوز المادي كي يستطيعوا أن يكفوا حاجات أنفسهم وأسرهم. وليس شباب الباحثين ولا طلاب الآثار بكل تأكيد استثناءً، بل الاستثناء الحقيقي هو أن تجد شابا يعمل في مجال تخصصه.. والأمثلة أكثر من أن تُعد.. لمياء.. (26 عاماً)، خريجة كلية آداب قسم لغة فرنسية، تخرجت وهي تتوقع أن اللغة ستفتح لها أفاقا واسعة، فاكتشفت أن دارسي اللغات "مافيش أكثر منهم" كما كان تعبيرها، تنقلت لمياء على الأعمال المختلفة واحدا تلو الآخر، فمرة بائعة في محل ملابس، وأخرى نادلة في أحد الفنادق، وثالثة تغسل شعور النساء من الطبقات الراقية في أحد محال الكوافير الشهيرة، حتى استقر بها الحال في أحد مطاعم الوجبات السريعة، تتساءل لمياء: "لماذا درست كل هذا السنوات؟ لماذا حَملت أسرتي مصاريف دراسة وجامعة ودروس خصوصية، من أجل العمل في مطعم؟ وهل يحتاج العمل في مطعم ليسانس في اللغة الفرنسية؟؟". ولاء مصطفى (29 عاماً) خريجة كلية زراعة وتخصصت في الكيمياء الحيوية وأجرت دراسات عُليا في تخصص دقيق في الكيمياء، تخرجت من أوائل دفعتها، لذا قررت الحكومة مكافأتها وتعيينها طبقًا لخطة تعيين العشرين الأوائل. أين عينت ولاء؟! في هيئة نظافة وتجميل القاهرة.. تسأل ولاء غاضبة: "هل هذا هو التكريم الذي حظيت عليه لتفوقي؟! هل هذا هو حلمي الذي عشته سنوات بأن أعمل في تخصص كهذا أعشقه، فأجد نفسي أقف في حديقة عامة بالشارع 8 ساعات يوميًا، ومعي عدة عمال بالأجرة، وبدون أي وسائل مساعدة حتى من الآلات وأجهزة، سوى عربة جمع القمامة، لأقوم بتجميل القاهرة؟!!". مالك عبد الله (25 عاماً) كان أكثر جموحًا، حصل على مجموع كبير في الثانوية العامة والتحق بكلية الطب، وبعد عامين اكتشف أن مصاريف الكلية ومتطلباتها كي يتخرج طبيبا ناجحا تفوق قدراته كثيرًا، وكما يقول مالك: "قمت بعمل حسبة بسيطة على ما سوف أنفقه لأحصل على شهادة الطب، ثم ما سأنفقه لأحصل على الدراسات العُليا لأستطيع أن أفتتح عيادة خاصة بي -هذا لو وجدت ما أستطيع فتحها به- وخلال هذا الوقت سأحظى بتكليف في أبعد بقاع الأرض بالتأكيد -لأنني لا أملك واسطة مناسبة- سأنفق به هو أيضًا أكثر مما سأحصل عليه من راتب، كي أستطيع أن أعيش حياة آدمية، فوجدت أن هذه حسبة خاسرة، فبمبلغ بسيط مما كنت سأدفعه في كل ذلك افتتحت محلا لبيع إكسسوارات المحمول، وأعيش حياتي كأفضل ما يكون، وهو غالبًا ما كنت سأضطر لفعله أيضًا في النهاية بعدما تضيق بي السبل بسبب الراتب الحكومي الضعيف الذي كنت سأحصل عليه بعد طول معاناة، لذا لقد اختصرت الطريق، واختصرت المصاريف، وسلكت الطريق الأكثر واقعية منذ البداية". أما مروة محمد فهمي (28 عاماً) خريجة كلية تربية قسم رياضيات، فتقول.. "أشعر إنني خُدعت، فلقد تنازلت عن المجموع الكبير الذي يتيح لي إحدى كليات القمة؛ كي أدخل كلية التربية؛ وذلك كي أعمل في تخصصي وفيما أحب، ثم صدر قرار بوقف تعيينات طلبة التربية، فتخرجت لأجد نفسي بلا عمل، أدور على المدارس لأستجدي وظيفة فأُرفض تارة، وأُقبل أخرى كمدرسة مؤقتة، بلا عقد، ليتم الاستغناء عني بعد عدة فصول دراسية، لأكتشف أنني كنت أعيش وهما عندما تخيلت أنه يمكن أن أعمل فيما أحب، أو أن أصدق وعدا أو خطة قدمتها الحكومة، فكل شيء في بلدنا قابل للإلغاء والتغيير بلا أي مبرر". وتعمل مروة الآن في مكتب نسخ كومبيوتر، بدلاً من البقاء في المنزل بلا أي عمل أو تسلية، ولتحصل على مصروف يدها على الأقل كما أكدت هي.
والحقيقة أنها ليست فقط كليات التربية التي أوقف تعيين خريجيها، بل إن الشائعات تدور حول وقف تعيينات المعيدين في الجامعات الحكومية، وحتى تعيين الأطباء تحوم حوله الأقاويل من شد وجذب، لتكتمل الحلقة حول الشباب، وتنتهي حتى المهن القليلة التي كان أصحابها يضمنون عملهم في تخصصهم بعد التخرج.. والمشكلة أن كل هؤلاء الشباب عبر طول مصر وعرضها لا يضمنون أن يصادفوا مذيعا متحمسا يستطيع أن يجد لهم واسطة، يخرجهم بها من بالوعات المجاري ليضعهم في أماكنهم المناسبة.