تتكون إثيوبيا من أغلبية مسيحية وأقلية مسلمة، إضافة إلى نسبة صغيرة من ممارسي الديانات القديمة. الشعب الإثيوبي شعب متدين جدا، يلصق البسطاء صور العذراء ومار جرجس بفتارين المحال التجارية وزجاج سيارات الميكروباص، يحبّ الإثيوبيون مار جرجس بصفة خاصة ويضعون صوره في كل مكان، ربما لأنهم يعتقدون أنهم دحروا الغزو الإيطالي عن البلاد بفضل شفاعته، حتى أنهم يضعون صورته على زجاجات البيرة! فأشهر بيرة في إثيوبيا هي بيرة سان جورج! في إثيوبيا يذاع القداس في مكبرات صوت خارج الكنائس، تماما كما يذاع الأذان في مكبرات صوت المساجد في مصر، من الغريب أيضا أن معظم الإثيوبيين الذين يذهبون إلى الكنائس لا يدخلونها، وإنما يظلون واقفين في الخارج في الحدائق التي تحيط بالكنائس يتبرّكون بالحوائط والأبواب والأسوار دون أن يدخلوا، وذلك لأنهم يشعرون أنهم غير مستحقين لدخول الكنيسة، وفي الداخل لا ترى إلا عددا محدودا جدا من الناس يكاد لا يزيد عن بعض النسوة العجائز. يحكي لنا سفر أعمال الرسل قصة دخول المسيحية إلى إثيوبيا في القرن الأول الميلادي، عندما كان خصي حبشي هو وزير كنداكة ملكة الحبشة قد أتى إلى أورشليم ليسجد فيها، ثم أخذ في طريق عودته يقرأ في نبوءات إشعياء النبي دون أن يفهم، فقابله القديس فيلبس (وهو يختلف عن القديس فيلبس أحد التلاميذ الاثنا عشر) في الطريق وشرح له النبوءات وبشّره بالمسيح، فآمن الخصي الحبشي واعتمد وعاد إلى بلاده، ليكون هذا الوزير أول مسيحي إثيوبي. ورغم العلاقات السياسية المتوترة التي سادت بين مصر وإثيوبيا -كما رأينا في الحلقة السابقة- فإن العلاقات الدينية كانت أوثق عُرى، فعلى مدى التاريخ كان يرأس الكنيسة الإثيوبية مطران مصري يعيّنه بطريرك الإسكندرية، بدأ الأمر نحو عام 330 ميلادية عندما قام البطريرك أثاناسيوس برسم فرومنتيوس السرياني مطرانا لإثيوبيا، وحمل اسم "أبا سلامة" التي تعني أب السلام.. وظلت هذه العادة سائدة لأكثر من 1600 سنة حتى اتفاقية 1948، التي تحولت بفضلها الكنيسة الإثيوبية إلى بطريركية، وصار لإثيوبيا أول بطريرك إثيوبي، وهو الأنبا باسيليوس الذي رُسّم في القاهرة عام 1959 على يد البابا كيرلس السادس.. والأنبا باسيليوس (1891 - 1970)، أو أبونا باسيليوس كما يُسمّى في إثيوبيا، هو أول مطران من أصل إثيوبي على الكنيسة الإثيوبية، قبل أن يصبح أول بطريرك إثيوبي. بعد وفاة أبونا باسيليوس خلفه أبونا ثيوفيلوس، ثم سقط حكم الإمبراطور هيلاسلاسي بانقلاب عسكري سنة 1974 وتم فصل الكنيسة الإثيوبية عن الدولة وأخذت الحكومة الماركسية الجديدة في تأميم ممتلكات الكنيسة، وتم اعتقال البابا ثيوفيلوس وإعدامه في السر، وأمرت الحكومة الكنيسة الإثيوبية بانتخاب بطريرك جديد فتُوِّج تكلاهيمانوت بطريركا، لكن الكنيسة المصرية لم تعترف به لأنه لم يكن قد عُرف أن البابا السابق قد أعدم، وانقطعت العلاقات بين الكنيستين بعد ذلك لوقت طويل. كان للثقافة القبطية دور كبير في المسيحية الإثيوبية، فقد دخل نظام الرهبنة القبطية إلى إثيوبيا على نظام الأنبا باخوميوس المصري قبل نهاية القرن الخامس، وعن طريق الرهبان المتعلمين تم نقل الأدب الديني من القبطية إلى اللغة الإثيوبية القديمة المعروفة بالجعزية، ورغم أن اللغة الأمهرية حلت محلها حاليا كلغة حديث، إلا أن اللغة الجعزية ظلت هي لغة القداس (مثلما ظلت اللغة القبطية القديمة مستخدمة في الصلوات الدينية في مصر رغم حلول العربية محلها كلغة الحديث)، ولما حدث الانشقاق الخلقيدوني بين الكنائس الشرقيةوالغربية، انحازت الكنيسة الإثيوبية إلى الكنيسة المصرية. في البداية كان المسيحيون الإثيوبيون في حالة صداقة مع المسلمين الأوائل، حتى أنهم استضافوا المهاجرين منهم هربا من اضطهاد القرشيين، لكن بعد فترة انقلبت هذه الصداقة إلى عداوة عندما حاول العرب الاستقرار على سواحل البحر الأحمر الإفريقية، ولمدة ستة قرون من عام 650 إلى 1270 ظلت إثيوبيا منغلقة على نفسها دون علاقات خارجية سوى مع أقباط مصر. بعدها ظلت الكنائس الغربية ترسل البعثات إلى إثيوبيا في محاولة لاستمالة المسيحيين الإثيوبيين إلى مذهب الكنيسة الغربية عوضا عن المصرية، لكنها لم تحرز نجاحا يذكر، وظل الشعب الإثيوبي ملتزما بالتبعية الدينية للأسقف المصري. ثم حدث أن استولى على السلطة ملاك سجاد الثالث (حكم من 1606 إلى 1632)، فأمر بالتحول إلى المذهب الكاثوليكي الغربي عام 1622، وتم تنصيب البرتغالي ألفونسو منديز بطريركا لإثيوبيا وعزل المطران المصري، لكن الشعب الإثيوبي غضب من هذا الأمر وقامت ثورة ضد البطريرك الكاثوليكي، وعندما مات الإمبراطور وتولى ابنه بسيليدس العرش عام 1632 أعاد البلاد إلى مذهبها الأرثوذوكسي. بعدها بسنوات صدر قرار بمنع أي كاثوليكي روماني من دخول البلاد، لكن مع ذلك استمرت محاولات الكنيسة الغربية لنشر مذهبها، ومع مرور السنوات صار للكنيسة الكاثوليكية عدة كنائس في إثيوبيا، كما أتت بعثات من الكنيسة البروتستانتية كان نجاحها محدودا. ظلت الكنيسة الإثيوبية على مدى قرون مُخلصة لكنيستها المصرية الأم، إلى أن بدأ الإثيوبيون يطمحون في تحويل كنيستهم إلى بطريركية منفصلة عن الكنيسة المصرية، وقد وافق البابا يوساب الثاني على استقلال الكنيسة الإثيوبية في اتفاقية 1948، ورفع رتبة الأسقف الإثيوبي باسيليوس إلى مطران لإثيوبيا، ثم اكتمل الأمر بقيام البابا كيرلس السادس بتنصيبه أول بطريرك إثيوبي عام 1959 كما أسلفنا، لكن العلاقات تدهورت أكثر بحدوث فتنة دير السلطان. ففي 25/4/1970 قامت القوات الإسرائيلية بإخراج الرهبان المصريين من دير السلطان بالقدس بالقوة، وتسليمه للأحباش الذين استولوا عليه منذ ذلك الوقت، ورغم صدور أحكام قضائية من المحاكم الإسرائيلية بأحقية الكنيسة المصرية في دير السلطان، لكن القوات الإسرائيلية ترفض تنفيذه منذ ذلك الحين.
يُتبع الحلقات السابقة: د. ميشيل حنا يكتب.. تحياتي من أديس أبابا (1) د. ميشيل حنا يكتب.. تحياتي من أديس أبابا (2) د. ميشيل حنا يكتب.. تحياتي من أديس أبابا (3) د. ميشيل حنا يكتب.. تحياتي من أديس أبابا (4) د. ميشيل حنا يكتب.. تحياتي من أديس أبابا (5) د. ميشيل حنا يكتب.. تحياتي من أديس أبابا (6) د. ميشيل حنا يكتب.. تحياتي من أديس أبابا (7) د. ميشيل حنا يكتب.. تحياتي من أديس أبابا (8) د. ميشيل حنا يكتب.. تحياتي من أديس أبابا (9) د. ميشيل حنا يكتب.. تحياتي من أديس أبابا (10) د. ميشيل حنا يكتب.. تحياتي من أديس أبابا (11) أديس أبابا 12 * دنيا الأدب اضغط على الصورة لمشاهدة الجاليري: