الأمر أشبه بذلك الصراع الشرس بين مشجعي الأهلي والزمالك، قبل أن يصعق المشجعون بذهاب الدوري في النهاية للإسماعيلي. فأيا كان الفريق الذي تنتمي إليه، سواء دولة ميدان التحرير، أو دولة الإخوان المتنقلة بين قصر الاتحادية وجامعة القاهرة وميدان عابدين، دعني أخبرك أن كل طرف انشغل بتبرير موقفه والتعنت لرأيه، والظن في أنه الأجدر والأصح، دون تأمل للمشهد بنظرة أوسع وأعلى تجعل كل من ينظر يدرك المأساة الأكبر، وهي أننا نتجه نحو المزيد من الانقسام والتشرذم، لنخسر جميعنا في النهاية حيث لا مكسب بين أبناء وطن مقسوم. وبغض النظر عن الفريق الأصوب والأحكم، إلا أن الحقيقة المرة التي لم يفطن إليها أحد بعد، أن الفائز الحقيقي في تلك المباراة هو فريق ثالث لا يلعبها أو يشجع أيا من الفريقين، إذ ينتظر المزيد من السخونة والغليان ليعلن عن وجوده في الوقت المناسب، ويقتنص المكسب لصالحه في النهاية بعيدا عن كلا الفريقين المتصارعين. هذا الفريق الثالث يلعب على جمهور عريض كفر بالثورة وكفر بالفلول وكفر بالجماعة، وتساوى في نظره الجميع في الفشل حين لم يوفر له أي منهم لقمة العيش وأدنى احتياجاته اليومية البسيطة، ليسأم هذا الجمهور من تلك المباراة العبثية بين جماعة انتهازية فعلت كل الموبقات والصفقات من أجل الوصول إلى الحكم، وثوار تحالفوا اليوم مع الفلول وكارهي الثورة وأعدائها للتصدى للإخوان وإلغاء إعلانهم الدستوري المستبد. الفريق الثالث يدرك جيدا أنه حين يفصح عن نفسه ويخرج من ثكناته سيكون الصراع قد وصل إلى أشده، وتحوّل الأمر من صراع إنترنتي أو حشد متبادل للأنفار إلى مشارف حرب أهلية، بعد أن يقدم أحد الطرفين على حماقة ستدفع الطرف الآخر للرد بحماقة مماثلة، تشتعل على أثرها النيران في طول البلاد وعرضها، وتخرج الأمور عن السيطرة، فتتجه أرض الكنانة إلى هاوية ستخرس الألسن حين تظهر في التلفاز رتبة عسكرية تقول بصوت صارم شديد اللهجة: باسم الأمة، فيستمع لها الجميع أملا في قدرتها على إنقاذ ما يمكن إنقاذه، دون أن يجرؤ أحد وقتها على أن يردد: يسقط يسقط حكم العسكر. ورغم انتماء قلبي وعقلي إلى ميدان التحرير على طول الخط، خصوصا حين يتصدى لإعلان دستوري يمنح أول رئيس منتخب صلاحيات ديكتاتورية قامت الثورة أصلا للتمرد عليها، إلا أني حزين على بلدي وقد تمزقت إلى أكثر من جبهة، وأكثر من شعب، ليخسر الجميع نعمة الوحدة والتناغم، ونصير عراقا آخر مشتت الفكر والجماعات التي اتفقت على ألا تتفق. حتى الموت لم نتعظ من جلاله، ولم نراعِ حرمته، لتتشتت مصر ما بين من يسير في جنازة "جيكا" ومن يسير في جنازة "إسلام". امتد الصراع بين الجميع دون أن نلتقي على كلمةٍ سواء، فأخذنا التناحر ما بين: إخوان وثوار، إخوان وسلفيين، ثوار وشرطة، بل وشرطة وجيش مؤخرا! ونتيجة حتمية لكل هذا، سيفقد بعضهم داخل قواتنا المسلحة أعصابه، ويتحرك هو الآخر ذات يوم ليرى أن من واجبه إنقاذ مصر التي يحبها مثلنا لكن على طريقته، فيعطي لنفسه المبرر حينها أن يبطش بالجميع ليخرس جميع الألسنة التي لا تنطق إلا بالتشتت والصراع بحثا عن مكاسب ومصالح شخصية، حتى يعيد للبلاد أمنها وأمانها. ورغم خوفي واعتراضي التام على ذلك، لكني على الأقل متفهم أنه ليس شرطا أن يتحرك من يقود حركة الانقلاب بحثا عن مكاسب وأطماع، بل قد يفعل ما سيفعل من منطلق واجب وطني يراه مقدسا، حفاظا على بقايا البلد من باقي المخرّبين. وفي النهاية، هناك مقولة تؤكد: الحضارات لا تزدهر إلا إذا وصلت إلى حافة الهاوية، فأي هاوية علينا أن نصل إلى حافتها حتى نزدهر ونفيق من غفلتنا؟ هل هي الحرب الأهلية؟ هل هي حركة تمرّد وانشقاق داخل الجيش؟ والسؤال الأهم: لماذا لا نزدهر ونبحث عن نقطة منتصف ترضي جميع الأطراف بإرادتنا، دون أن نفعل ذلك مرغمين ومتباكين على الثمن الذي دفعناه لنصل إلى ذلك، ما دامت الأمور في أيدينا ولم ينفلت العيار بعد؟! حب الوطن وتنحية المصالح الشخصية أو الحزبية هما الحل.