من البداية.. فليعذرني القارئ العزيز لو استشعر من كلامي تشاؤما زائدا أو خيالا واسعا به إفراط في السوداوية؛ فأنا من أهل مدرسة التعامل مع أي تهديد باعتباره حقيقيا حتى يُثبت العكس، وأي تهديد أخطر من دعاوى عنف تتردّد من هنا وهناك في مناسبة تظاهرات كان أوّل من دعا لها -التظاهرات لا العنف- أشخاص معروفون بدعمهم لفلول النظام السابق بل وبانتمائهم له؟ ومسايرتي عقلي في افتراضه أسوأ الظروف ليس ناتجا عن رفضي تظاهرات يوم 24 أغسطس باعتبارها تدعو لإسقاط رئيس شرعي جاء بانتخابات ديمقراطية، وإنما لمجرّد انطلاق نداء العنف وتردّد صداه في كل الأركان. يقول الكثيرون إن أغلب الظن أن لن يحدث شيئا يوم 24، وأن الأمر سيقتصر على تظاهرة صغيرة هنا واحتشاد ضئيل هناك، وهذا ما أرجوه بشدة.. هذه مرة من المرات القليلة التي تمنيت فيها أن أكون مخطئا مفرطا في التشاؤم، ولكني أرى أن من واجبي أن أطلق العنان لخيالي، وأحاول رسم أكثر من سيناريو استنادا على افتراض أسوأ الظروف الممكنة.. هذا بالتأكيد أفضل من التغاضي عن خطر لضآلة احتمالاته. لدينا معادلة الفلول جزء منها، علينا إذن افتراض مساحة واسعة من سوء النوايا والمخططات التآمرية المدمّرة.. لدينا كذلك ما هو معروف عن الفلول من قدرة مخيفة على التمويل وحشد المأجورين والبلطجية.. لدينا أيضا خطاب واثق من نفسه بشكل غريب، أشبه بثقة ذلك الممثّل الضئيل في مسرحية "الهمجي" وهو يقول لمحمد صبحي "ما تقدرش".. تلك الثقة التي تبثّ في النفس شكا أن وراء الأكمة ما وراءها! فكيف لا يستفز هذا خيالي -وهو خيال يبالغ حين ينطلق- فأضع عدة سيناريوهات كابوسية سوداء لما قد يحدث لو تحوّلت دعوة العنف إلى واقع منظّم جيد التخطيط؟! وهذه إذن بعض السيناريوهات التي بنيتها على "أسوأ الظروف" سالفة الذكر: السيناريو الأول: إحراق أقسام الشرطة يعتمد على افتراض أن الاعتداءات لن تتركّز فقط على مقار الإخوان وممتلكاتهم، وإنما ستشمل بعض منشآت الدولة؛ وأبرزها أقسام الشرطة في محاولة لتكرار سيناريو الانفلات الأمني التالي لجمعة الغضب 28 يناير 2011.. هنا نحن أمام احتمالين: إما أن تتصدّى الشرطة لهذا الاعتداء بجدية وتنجح في مواجهته وردع القائمين به، أو أن تتخلّى عن مهمتها كما حدث في الجمعة سالفة الذكر؛ سواء لضعف في عزيمتها أو رغبة في المساهمة في إسقاط الإخوان أو بنية الاستمرار في معاقبة الشعب على ثورته.. أيا كانت الأسباب فسيكون هذا أمرا كارثيا؛ لأن الانفلات الأمني هذه المرة لن يكون عشوائيا استعراضيا بغرض بثّ الخوف في نفوس المواطنين، وإنما سيكون عنفا سياسيا منظّما تقوم به ميليشيات من بلطجية الفلول بحق الإخوان وأي رموز وطنية ثورية أو سياسية، يأخذ شكل الاغتيالات والأعمال الإرهابية والاعتداءات المنظّمة.. تلك الأعمال العنيفة لا أتوقّع أن تحقق النصر لأصحابها في النهاية، ولكنها ستجرّ البلاد لحالة من الرعب والدم نحن في غنى عنها. وقد يسأل البعض: لماذا أخرجتُ الجيش من المعادلة ولم أضع في الحسبان نزوله مجددا إلى الشارع لحفظ الأمن والنظام؟ ببساطة لأن الجيش من المعطيات التي يحيط بها الغموض؛ فنحن لا نعرف حتى الآن معلومات كاملة عن كيفية حدوث هذا التغيير المفاجئ في قيادات المؤسسة العسكرية. السيناريو الثاني: العدوان على مقار الإخوان يفترض تركز العنف على مقار الإخوان، ومع الأسف فإني لا أتوقّع أن تبدي باقي الفصائل السياسية والثورية والمنتمين للتيارات المختلفة التضامن المطلوب مع جماعة الإخوان أمام هذا العدوان، بل أحسب -وأرجو أن أكون ظالما في حكمي- أن كثيرا منهم قد يتعامل مع الأمر إما بطريقة "بركة يا جامع" أو بطريقة "فليحرق أحدهم الآخر فهذا لا يعنيني"؛ هذا فضلا عمّن قد يحاولون استغلال تلك الأزمة لتحقيق مكاسب سياسية على حساب الإخوان.. دعونا نعترف أن جماعة الإخوان ليست الكيان الذي تُسقِطه تلك الهجمات، وأنه لو تصدّى لها وحده لاستطاع صدّها والتصدّي لمن هم خلفها، بالتأكيد سيكون ممارسة الشرطة عملها كما ينبغي عاملا مساعدا على ذلك، ولكن حتى لو فرضنا انسحابها كما في السيناريو السابق؛ فإن الغلبة في النهاية ستكون للكيان الأكثر تنظيما والأكثر قدرة على الحشد من الفلول. ولكن.. هناك مشكلة هنا، أن هذا الكيان -أعني الإخوان- لن يضيّع فرصة استغلال تخلّي البعض عنه ومحاولة البعض الآخر تحقيق المكسب على حسابه؛ فستهدر الآلة الإعلامية الإخوانية بأن الإخوان هم من أنقذوا البلاد -على غرار "الإخوان هم مَن حموا الثورة"- وسيظهر الإخوان مظهر أبطال الثورة الذين تصدّوا للخطر وحدهم رغم أن الجميع باعوهم.. وسيُمارسون ضد باقي التيارات نفس ما قيل في الإخوان خلال وبعد أحداث محمد محمود وشارع مجلس الوزراء، ولكن مع فارق أن الجماعة هنا ستكون صاحبة السلطة الشرعية، وهو ما قد يغريها بقمع معارضيها لإكمال خطة التمكين للإخوان من مصر. والحقيقة أن هذا سيكون عقابا عادلا لنا لو تحقق هذا السيناريو ولم يتصدَّ الشرفاء منّا معشر أهل التيارات المدنية لمن ينادون بالتخلّي عن الإخوان أو المساعدة على ضربهم. السيناريو الثالث: دخول مصر في حالة انتقالية جديدة وصعود التيار السلفي يفترض وقوع فوضى أمنية عنيفة وهجمات على كلا من مقار الإخوان والمؤسسات الحكومية، ثم حالة انفلات أمني تتطلّب نزول قوات الجيش للشارع، ثم تكون هذه مقدّمة لسيطرة المؤسسة العسكرية مجددا على الحكم، ودخول مصر في مرحلة انتقالية جديدة. ولن أستفيض في استعراض هذا السيناريو الذي أراه الأسوأ بين ما سبق، لكني أدعو القارئ لتأمل أحداث السنة وبضعة أشهر الماضية ليدرك كارثية هذا الوضع؛ خصوصا أن قيام الجيش بعمل كهذا سيكون فيه قضاء على أكبر كيان سياسي في مصر -الإخوان- وهو ما يعني أن الصدارة ستنتقل للكيان التالي له تنظيما وعددا -التيار السلفي- وهو إن كان تيارا يغلب عليه ما يمكن أن نسمّيه "البراءة السياسية" إلا أنه ليس بمرونة الإخوان في التعامل مع الآخر، وهو ما يعني أن تصدره المشهد سيجهض نشوء أي كيانات سياسية يمكن أن تقدر يوما على منافسته لتحقيق التوازن في الحياة السياسية المصرية. أما لو تضمن هذا السيناريو انقلاب الجيش لا على الإخوان وحدهم بل على التيار الديني كله؛ فهو كارثة أكبر؛ لأن الحياة السياسية في مصر ستكون ممزقة بين كيانات صغيرة متناحرة لا يقدر أي منها على تحمل المسئولية، ولا تتمتّع فيما بينها بالخبرة السياسية ولا بالمرونة الكافية للاتحاد في كيانات أكبر تحفظ التوازن السياسي في مصر من الاختلال. ختاما: فليعذرني القارئ العزيز لو أنه يراني قد أطلقت للخيال العنان إلى حد الشطح بعيدا، ولكنها طبيعتي الحذرة المعتادة، فضلا عن أني قد أعلمتُ القارئ أن ما سلف هو أسوأ ما فكرتُ فيه، ولنعترف أن لكل منا كوابيسه وتشاؤماته وسيناريوهاته السوداء.. فقط أنا جربتُ ألا أخجل من طرحها؛ فأرجو من كل منا أن يخرج ما في رأسه ويستعرضه مهما كان خياليا أو بدا له سطحيا أو هلاميا؛ لأن المهم هو ليس براعة التحليل هنا، بل أن يكتشف كل منا أن العامل المشترك بين كل افتراضاتنا وسيناريوهاتنا هو خوفنا من وجود فئة "الفلول" في الصورة، ومن ارتباطها بالفعاليات المدعو لها؛ خصوصا مع ما قد ثبت في وجداننا الجمعي من افتراض آلي لسوء نوايا ومخططات تلك الفئة. وفي مثل تلك الحالات فإن افتراض الأسوأ وسياسة "عِش في خطر" هما أكثر الأفعال حكمة.. و"البارانويا" هي أكثر حالات التفكير صحية. وأكرّر.. أرجو أن يتضح أن كل ما سلف من تفكير وتحليل هو هذيان وثمرة خيال خصب، وأن يكون يوم 24 أغسطس عبارة عن جعجعة بلا طحن؛ ففي بعض الأحيان يريح المرء أن يكون على خطأ.