"الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر".. عبارة صرنا نسمعها كثيرا من بعض مَن يروْن الدين بنظرة متشددة سوداء، ومَن يتصوّرون أنها دعوة إلى العنف وإلى فرض الأخلاقيات بالقوة.. ففجأة.. وفي الآونة الأخيرة ظهرت في المجتمع فئة تصوّرت أن وصول رئيس إخواني إلى السلطة يعني أنهم قد صاروا جميعا في موضع السلطة.. فئة قرّرت أن تتحدّى كل شيء، وتتحوّل إلى جماعة تفرض السطوة بالسلاح والعنف.. والأسوأ أنها تفعل هذا باسم الدين.. وقبل أن نناقش فكر تلك الجماعة شديدة التطرّف، دعونا نطرح مجموعة من الأسئلة الأولية الواجب معرفة إجاباتها على نحو عملي وواقعي: إنهم يريدون فرض المعروف.. والنهي عن المنكر.. فما هو المعروف؟! وما هو المنكر؟! "المعروف" في كل قواميس اللغة العربية هو ما تعارف عليه الناس واتفقوا عليه واعتادوه في حياتهم اليومية.. ولأنهم جميعا يعرفونه صار يستحقّ حرفي الألف واللام.. وصار "المعروف".. و"المنكر" هو ما ينكره الكل على نحو عام، وليس ما تنكره فئة وحيدة دون غيرها.. ولأن الجميع ينكره صار يعرف ب"المنكر".. الخطوة الأولى إذن هي أن نتفق على ما هو "المعروف"، وما هو "المنكر".. الخطوة الثانية هو ترتيب المنكرات من الأقل إلى الأكثر إنكارا.. ففي السويس رأى بعضهم أن سير شاب مع فتاة أمر منكر؛ فقتلوا الشاب.. لقد رأوا إذن أن سير شاب مع فتاة أمر منكر، ولكن قتل النفس التي حرّم الله قتلها ليس منكرا.. وهذا يعني وجود خلل في المفاهيم الأساسية؛ فالنهي عن المنكر لا يبيح ارتكاب فعل أشدّ إنكارا.. هذا من منطلق القول الشهير بأن "الطريق إلى الجحيم مفروش دوما بالنوايا الطيبة".. وهذه لعبة الشيطان.. أكبر لعبة يلعبها الشيطان على نفوس البشر.. والشيطان له وسائل شديدة: الخبث والتحايل لخداع النفوس البشرية.. الشيطان لا يدعوك أبدا لارتكاب المعصية.. إنه -فقط- يُزيّنها لك.. ولهذا قيل: إن الشيطان يُزيّن لهم أعمالهم.. الشيطان أخبث من أن يدعوك إلى الخطأ على نحو مباشر.. إنه يجعلك تتصوّر أنك تسير في طريق الحق، في حين أنه يدفعك دفعا إلى طريقه هو، ويقود روحك إلى النار، وأنت تتصوّر أنك تشقّ طريقك إلى الجنة.. وهناك قصة قديمة -ربما سمعها بعضنا أو قرأها- ولكن القليلين منّا استوعبوها وفهموها وأخذوا العبرة والحكمة منها.. قصة تقول: إن الشيطان زار عابدا ناسكا، وطلب منه أن يرتكب خطيئة من ثلاث، حتى يتركه على قيد الحياة.. لقد أتى له بامرأة جميلة وطفل صغير بريء وزجاجة خمر، ثم طلب منه أن يختار إمّا أن يزني بالمرأة.. أو يقتل الطفل.. أو يشرب الخمر.. واختار الناسك ما بدا له أنه أقل الخطايا.. اختار أن يشرب الخمر.. وشرب الناسك الخمر.. ودار رأسه سكرا، وزيّن له الشيطان جمال المرأة، وأطار الخمر صوابه.. وزنى الناسك بالمرأة.. ولما كان الطفل بريئا طاهرا؛ فقد اعترض على ما يحدث وحاول منعه من هذا.. ولكن الخمر كانت تعربد في رأس الناسك.. فقتل الطفل، حتى يخلوا له الحال مع المرأة.. وابتسم الشيطان بكل خبثه.. فالناسك اختار ما بدا له أنه أخف معصية.. فارتكب كل المعاصي.. هكذا الشيطان.. وهكذا خبثه.. لقد كان يعلم منذ البداية أن الناسك سيختار الخمر.. وكان يعلم ما سينتهي إليه الأمر.. وخدع الناسك العابد.. وحقّق هدفه.. القصة قد لا تكون لها أي أساس من الحقيقة، ولكنها تحمل في كلماتها وطيّاتها حكمة كبيرة للغاية.. حكمة كان ينبغي أن نتعلّم منها كيف هو خبث الشيطان؛ فقتلة شاب السويس.. تصوّروا أنهم خرجوا يمنعون معصية؛ فانتهى بهم الحال إلى أنهم قد ارتكبوا ذنبا كبيرا؛ فالشاب القتيل لن يضيع حقه أبدا.. لا في الدنيا.. ولا في الآخرة.. فمن قتلوا سيكون عليهم أن يقفوا أمام الله سبحانه وتعالى في الآخرة؛ ليُفسّروا له كيف أنهم عصوه، بعد أن أمرهم بأن يدعو إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة؟! وكيف أنهم -ولكي يمنعوا معصية- ارتكبوا معصية أكبر منها بكثير.. ومهما فعلوا أو فسّروا أو حتى كذبوا على أنفسهم في الدنيا، وأقنعوا أنفسهم بأنهم يفعلون هذا غيرة على الدين؛ فلن يمكنهم أن يكذبوا على الخالق عز وجل في الآخرة.. لن يمكنهم أن يبرروا كل تلك الكراهية التي تملأ نفوسهم.. لن يمكنهم أن يشرحوا كيف أرادوا إرهاب الناس باسم الدين.. لن يستطيعوا أن يفسّروا كيف كانوا أفظاظا غلاظ القلب، فانفضّ الناس من حولهم.. إنهم في الدنيا يفرغون حقدهم وغلّهم وكراهيتهم باسم الدين.. ويخالفون ما أمر به الدين.. ثم ينتظرون مكافأة من رب الدين عز وجل.. فكيف؟! كيف؟! ألم يقرأوا حرفا واحدا من تاريخ الدين الذي يدّعون أنهم يفعلون كل هذا في سبيل رفعته؟! هل وجدوا في تاريخه كله محاولة إجبار واحدة لشخص واحد على اتّباع دين الله سبحانه وتعالى؟! هل رأوا في تاريخ الدين كله حادثة واحدة قتل فيها شخصا؛ لإجباره على اتباع دين الخالق المعز المذل المنتقم الجبار؟! ما الذي يتبعونه إذن؟! الله خالق الكون العزيز القهار الذي أمر بأن تكون الدعوة إلى دينه بالحكمة والموعظة الحسنة؟! أم الشيطان الذي يدعو إلى الحقد والغل والكراهية والعنف؟! حذار.. حذار.. حذار ألف مرة.. الطريق إلى الجحيم مفروش دوما بالنوايا الطيبة.. والفارق بين الجحيم والجنة ليس في النوايا.. بل في الإرادة.. وفي العقل.. وفي التدبير.. ولهذا اختصّ الله سبحانه وتعالى أولي الألباب والقوم الذين يتفكّرون ويعقلون؛ ليوجّه إليهم آياته الكريمة.. القتل ليس ما يدعو إليه الخالق عز وجل.. والمعصية الكبرى لا تبرّر محاولة منع المعصية الصغرى.. والدين من أمثال قتلة شاب السويس بريء؛ لأنه دين الله المعز المذل.. الله الرحمن.. الرحيم.. يا مَن تعقلون،،،