الغابة شاسعة حقا.. الجو هناك يختلف عن أي جو آخر.. ذلك المكان خاص بالأساطير، بالأشياء التي يصعب أن تواجهها بنفسك، لأنك في عالم واقعي قاسٍ، لكن في ذلك العالم الذي أفرزته المخيلة الإنسانية الخصبة كل شيء ممكن، يمكنك لو أغمضت عينيك وركزت قليلا أن تشاهد أشياء مثيرة: في هذا الركن مثلا نرى فتاة صغيرة تتدثر بثوب أحمر مميز وهي تحمل سلة متجهة إلى جدتها.. من سوء الحظ أنها كانت تمر بالغابة، وهناك تقابل الذئب الشرير الذي صارت قضية حياته الهامة أن يلتهمها، لذا فهو يتحايل ويغرر بالفتاة البريئة من أجل أن يلتهمها هي وجدتها. دع الذئب وحديثه المعسول وانتقل إلى مكان آخر بذات الغابة الشاسعة: نحن الآن بالقرب من قصر فخم، حيث نجد هناك أميرة فاتنة (وكل الأميرات هنا فاتنات بالمناسبة) تلعب بكرتها، والتي تسقط في بئر عميقة مما يجعلها تنتحب، لولا أن يبرز ضفدع يساعدها مقابل خدمة تقدمها له.. توافق حتى تأخذ غرضها منه -مع الأسف- ثم تولي وجهها عنه. حسنًا.. القصة لم تنتهِ بعد بهذه الصورة، فما زالت هناك نهاية قادمة مختلفة. وماذا عن يوهانس المخلص؟ الرجل الذي يُوصى من قِبل ملكه أن يرعى ابنه، لكن بسبب حماقات هذا الأخير يضطر أن يضحي بأشياء كثيرة، حتى حياته. أما عن الخياط الشجاع فهو ليس شجاعا على الإطلاق، بل هو يستخدم عقله بشكل مختلف عن الآخرين، مما جعل الآخرين ينبهرون به. أما عن الفتي الذي لا يخاف مثل بقية البشر فحكايته غريبة ومشوقة، هل رأيت أحدهم يسافر من قبل لكي يعرف معنى الخوف؟! أما هينزل وجريتل فينتظرهما مصير مفزع في بيت الساحرة الشريرة، والتي تتسلي بشيّ ضحاياها والتهامهم. أما عن سندريلا وبنات زوجة أبيها ومأساتها فمعروفة. الغابة مليئة بالحكايات والقصص العجيبة والمدهشة.. كل ما عليك فقط أن تخطو إليها واضعا يدك على قلبك، فلا تصدق أن هذه الحواديت للأطفال فقط، بل يمكن القول إنها مرعبة بشكل كافٍ. فهناك حكاية الموت الذي يتفق مع رجل فقير على أن يرعى أحد أبنائه، وبالفعل حدث هذا، لكن الولد التعس تحدى الموت ذاته. والمرأة الفقيرة التي تستغل وجود قوى تحقق الأمنيات وطمعها الذي يتزايد، وأمنياتها التي تصل إلى حد الجنون لدرجة أن تطلب أن تملك قوى إلهية. ما نتحدث عنه هو التراث الألماني المليء بالزخم، والمعنون ب" حواديت الأخوين جريم"، والذي صدر جزؤه الأول عن المركز القومي للترجمة، ومن المفترض أن يصدر جزءان آخران، لكن هذا لم يتحقق حتى الآن. المتعة تتضاعف بقراءة الحواديت التي راح الأخوان يجمعانها من ربوع ألمانيا بقصد الحفاظ على التراث الألماني، ووصل أمانتهما في سرد قصص متشابهة تختلف في بعض التفاصيل الصغيرة، دون أن يدسا أنفيهما في التعديل والتنقيح والتغيير، إذن فمهمتهما كانت جمع ذلك التراث دون تغيير، وعلى كلٍ فوظيفة "جامع التراث"- إن جاز التعبير- في العالم الغربي لها احترامها وقدسيتها، وهناك أمثلة عديدة ليس المجال متاحا لذكرها الآن. الشر في تلك الحكايات مرعب حقا والجزاء يكون مأساويا، ويكفيك أن ترى كيف يُعاقب الأشرار بطرق لا تخطر على بال خبراء التعذيب أنفسهم. فعلى سبيل المثال نجد امرأة وابنتها تعاقبان بأن توضعا في برميل يُثقب بالمسامير، ثم يُلقى وهما بداخله من أعلى جبل إلى تيار جارف لأحد الأنهار. كتاب ممتع حقا، والترجمة الأولي الكاملة -حسبما أعلم- للتراث الذي جمعه الأخوين جريم، وانتشرت ترجماته وحكاياته وشخصياته في ربوع العالم.