للوهلة الأولى بدا محرر صفحة الحوادث في تلك الصحيفة اليومية الشهيرة ماجد مجدي، أنه أمام سبق صحفي كبير، يمكن أن يقفز باسمه إلى الذروة، عندما اتصلت على هاتفه الخاص، وليس هاتف الجريدة، زوجة العالم الشهير سالم وهيب، الذي احتلت أخبار اختفائه الغامض مكان الصدارة في كل الصحف تقريبا خلال الأسبوع الماضي. كانت الشرطة تكثف جهودها للبحث عن سالم وهيب الذي أعلن منذ ثلاثة أسابيع فحسب، أنه إزاء كشف جديد سيقلب كل موازين العلم رأسا على عقب.
ولقد بذل كل إعلامي في مصر جهدا كبيرا لمعرفة هذا الكشف الخطير، لكن مقابلة الدكتور سالم بدت مستحيلة تماما، إذ أن زوجته نوال سيدة المجتمع الشهيرة، لم تسمح لهم بهذا قط، وأخبرتهم بكل الحزم أن العالم الكبير يرفض الإدلاء بأي تصريح خاص قبل أن يعلن كشفه الخطير للعالم أجمع.
ثم فجأة وبلا مقدمات أخبرت السيدة نوال الشرطة عن الاختفاء المفاجئ لزوجها دون أن يترك خلفه أدنى أثر.
في البداية تصور بعض رجال الشرطة أن الزوجة قد قتلت زوجها منذ أن رفضت السماح لأي شخص برؤيته أو مقابلته أو حتى سماع صوته عبر أسلاك الهاتف، ولكن كل التحريات أثبتت أن سالم وزوجته عاشقان منذ زمن طويل، وأن السيدة نوال ما زالت مبهورة بزوجها على الرغم من تجاوز كليهما منتصف الأربعينيات، وأنه من المستحيل أن تقدم على أي شيء يمكن أن يؤذيه.
بالإضافة إلى هذا لم تعثر الشرطة أو أجهزة الأدلة الجنائية على أي أثر يشير إلى حدوث جريمة من أي نوع في المنزل أو المعمل الصغير الملحق به، كما أن ذلك الحزن الذي انهمر من عيني السيدة نوال وهي تحتضن طفلهما الوحيد في مرارة بدا صادقا للجميع، مما أثار الكثير من علامات الاستفهام حول اختفاء العالم.
فلقد بدا كما لو أنه قد تلاشى تماما. ثيابه كلها في موضعها. حافظة نقوده.. سلسلة مفاتيحه.. وحتى بطاقات ائتمانه.. فكيف اختفى؟ كيف؟
كل هذا دار في ذهن ماجد وهو يستقبل مكالمة السيدة نوال التي طلبت منه فيها الحضور إلى منزلها حتى تطلعه على ما تستطع أن تطلع أحدا عليه.
وبأقصى سرعة استطاعها كان يدق باب فيلتها لتستقبله بنفسها، قائلة في حزن وانكسار وابنها الصغير يتشبث بيدها في توتر وكأنه يخشى أن يختطفه منها أحد:
"كنت أعلم أنك ستأتي مسرعا". قالتها في هدوء حزين، فابتلع ماجد لعابه في صعوبة، وغمغم: - لم يكن من الممكن أن أتأخر.
دعته للدخول وجلست أمامه في صالون الفيلا وهي تضع ابنها الصغير على ركبتيها، فتشبث بها مرة أخرى وهو يتطلع إلى ماجد في قلق، فربتت عليه في حنان محاولة تهدئته وهي تقول: - ليس لديّ من شك في أنك تعلم لماذا أنت هنا.
غمغم ماجد محاولا كتمان انفعاله: - بشأن اختفاء الدكتور سالم. أومأت برأسها إيجابا وضمت إليها ابنها أكثر وهي تقول: - بالضبط؛ المجتمع كله منشغل بالبحث عن سر اختفائه، ولقد استجوبتني الشرطة ثلاث مرات وأخبرتهم في كل مرة أنني مثلهم أجهل سر اختفائه. غمغم ماجد: - أعلم هذا.
تطلعت السيدة نوال إلى عينيه مباشرة قبل أن تقول في حزم: - ولكنني لم أكن صادقة في هذا. تراجع بحركة حادة، واتسعت عيناه وهو يحدق فيها قبل أن يقول متلعثما: - إذن فأنت تعلمين؟!
أومأت برأسها في حزم وهي تضم طفلها إليها مجيبة: - بالتأكيد. قاوم ذلك الانفعال الشديد الذي سرى في كيانه كله وهو يعتدل على مقعده ويسألها في توتر: - وهل تنوين إخباري؟!
أومات برأسها مرة أخرى، مجيبة: - لهذا طلبت مقابلتك، فزوجي كان يطالع ما تكتبه دوما ويقول: إنك من أكثر من يكتبون في هذا المجال صدقا والتزاما. أومأ برأسه وهو يزدرد لعابه دون أن يستطيع النطق بكلمة، فتابعت هي في هدوء لا يتناسب حتما مع الموقف: - اختفاؤه يرتبط بذلك الكشف الكبير على نحو مدهش، ولكنه كان يخبرني دوما أنه يحتاج إلى إجراء ولو تجربة واحدة على البشر قبل أن يعلن كشفه.
اندفع يسألها في لهفة: - وما هذا الكشف بالضبط؟ صمتت لحظات متطلعة إليه قبل أن تجيب في حزم: - حلم البشرية منذ الأزل.. الإكسير.. إكسير الشباب.
تراجع في مقعده كالمصعوق يحدق فيها ذاهلا مستنكرا، وكأنما تصور أن المرأة قد أصيبت بنوع من الجنون بسبب اختفاء زوجها المفاجئ، وبدا من نظراتها أنها قد استوعبت ما دار في ذهنه، فهزت رأسها واحتضنت ابنها أكثر وكأنها تحميه منه وهي تقول: - أعلم أن هذا قد يبدو أشبه بالجنون، ولكن المؤسف أنه حقيقة؛ سالم توصل بالفعل إلى عقار يعيد الحيوية والشباب إلى خلايا الجسد، بحيث ينقص بيولوجيا عدة سنوات من العمر قدّرها هو بعشر سنوات تقريبا من النتائج التي حصل عليها من تجاربه على حيوانات المعمل.
غمغم ماجد: - ولكن هذا... قاطعته في حزم: - حقيقة يا أستاذ ماجد.. حقيقة ستفسر لك كل شيء، لو أنك فقط حررت عقلك وقررت قبولها. ظل صامتا بضع لحظات يواصل تحديقه فيها قبل أن يقول في توتر: - فليكن.. ما علاقة هذا باختفائه؟
مطت شفتيها وألقت نظرة حانية على طفلها قبل أن تقول: - لقد أيقظني ذات يوم قرب الفجر ليخبرني أنه قد أجرى التجربة على نفسه وتناول العقار الذي يبدأ تأثيره خلال ساعات قليلة، ليلتها أصابني الفزع وعاتبته على ما فعل، ولكنه كان حنونا للغاية وهو يخبرني أنه واثق من نجاح عقاره، وسرعان ما سأدرك هذا.
غمغم ماجد وهو يحاول ازدراد لعابه في صعوبة: - هل.. هل قتله العقار؟ هزت رأسها نفيا وهي تجيب: - على العكس.. لقد نجح نجاحا مبهرا؛ ففي العاشرة من الصباح التالي بدا تأثيره شديد الوضوح. لقد زالت تجاعيد وجهه القليلة وصارت بشرته صافية واختفى الشيب الذي كان قد بدأ يسري في شعره، وبدا أكثر حيوية ونشاطا إلى حد جعله يشبه صورته عندما كان في الثالثة والثلاثين من العمر.
هتف ماجد مبهورا: - مدهش! ابتسمت ابتسامة حزينة، وطبعت قبلة على جبين طفلها، قبل أن تقول: - هكذا بدا الأمر في البداية، مما جعله يطير سعادة وأخبرني أنه سيعد جرعة أخرى لي حتى ننعم معا بشباب أبدي، ونعوّض تلك الأيام التي ضاعت في تجاربه وأبحاثه.
بدا مبهورا بضع لحظات قبل أن يسأل في توتر: - ما علاقة هذا باختفائه إذن؟ هل علمت جهة ما بكشفه العظيم فقررت التخلص منه؟ هزت رأسها نفيا مرة أخرى، وقالت في حزن: - مطلقا.. إنه على الرغم من سعادته لم يعلن عن كشفه هذا لأي جهة، وإنما عكف على صنع جرعة ثانية، مؤكدا أن الكشف سيذهل العالم عندما نظهر معا في المؤتمر الصحفي أصغر سنا ويرى العالم كله عبقرية كشفه.
سألها ماجد وقد ازداد انفعالا: - ماذا حدث إذن؟ تنهدت بكل الحزن والأسى قبل أن تجيب: - في صباح اليوم التالي أصابني الذعر عندما شاهدت شابا يافعا يخرج من معمله وعلى وجهه كل علامات الأسى، ليفاجئني بأنه سالم زوجي وبأن العقار ما زال مستمرا في تأثيره ولم يتوقف عند حدود السنوات العشر التي توقعها، بل يواصل عمله حتى صار هو في أوائل العشرينيات من عمره.
اتسعت عيناه عن آخرهما مغمغما: - يا إلهي! واصلت بكل الحزن والأسى: - الذعر الذي أصابه كان أضعاف الذعر الذي أصابني، ولقد أخبرني أنه سيبذل قصارى جهده لإنتاج عقار مضاد يوقف عمل الإكسير في أسرع وقت ممكن.
صمتت لحظة، لم يجرؤ هو فيها على نطق حرف واحد قبل أن تكمل: - ولكن ذاكرته كانت تنخفض بدورها وتتناسب مع ما كان عليه في العشرين من عمره، وارتبك عمله وفشلت محاولاته، و...
عادت إلى صمت مفعم بالحزن لحظات قبل أن تضيف في اقتضاب: - ولم ينجح عقاره المضاد. اتسعت عينا ماجد عن آخرهما، وهو يغمغم: - وماذا حدث بعدها؟
زفرت زفرة حارة، وهي تجيب: - واصل العقار عمله. سألها في صعوبة: - إلى أي مدى؟
ابتسمت ابتسامة شاحبة حزينة وهي تهز رأسها، وغمغمت وهي تطبع قبلة أخرى على جبين طفلها: - من حسن الحظ أننا لم ننجب.
اتسعت عينا ماجد أكثر وهو يحدق في طفلها، مغمغما في لهجة أقرب إلى الذعر: - ولكن هذا... بدت ابتسامتها أكثر شحوبا وهي تقول: - من العجيب أن كل محققي الشرطة لم ينتبهوا إلى هذا، وكلهم تصوروا أن الطفل الذي أرعاه هو ابننا، ولم يخطر ببال أحدهم ولو لحظة واحدة أنه سالم زوجي.
قفز من مقعده ذهولا وهو يحدق في الطفل، وانتبه فجأة لأنه يبدو أصغر سنا مما كان عليه عندما وصل إلى المنزل، وانعقد لسانه، فلم يستطع النطق بكلمة واحدة في حين تابعت هي: - زوجي الذي أحببته من كل كياني، والذي سأظل أحبه وأرعاه. بصعوبة بالغة، غمغم محدقا في الطفل: - وتريدنني أن أنشر هذا؟! هزت رأسها قائلة: - أردت فقط أن يُشاركني شخص ما الحقيقة.. ويُمكنك نشر ما تريد لأنني اخترت التوقيت في دقة؛ فمع موعد النشر لن يمكنك إثبات أي شيء.
قال في صعوبة: - هناك تحاليل للحامض النووى، و... قاطعته في حزم: - كل هذا لن يفيد. هتف: - ولماذا؟
كانت ثياب الطفل قد اتسعت، وبدا وكأنه في الثالثة من عمره فحسب عندما طبعت قبلة أكثر حنانا على جبينه مجيبة: - لأنه سيكون عندئذ، قد... بترت عبارتها لتزدرد لعابها في صعوبة ثم أكملت مرتجفة: - تلاشى.