هل المفترض أن تسير الثورة المصرية العظيمة -التي كَتَبت صفحة جديدة متميّزة في سجل الثورات- على نحو عشوائي، أم تصبح ثورة عاقلة مسئولة كافية لصنع مستقبل جديد؟! دعونا نحسبها.. هل يمكن أن تقود الفوضى إلى خلق نظام جديد؟! هل يمكن أن تنهض أمة بالغضب؟! فقط بالغضب؟! وكيف يمكن بناء دولة عظيمة لا تكف مطالبات شعبها لحظة واحدة؟! وهل يمكن أن يقوم نظام على هدم كل نظام؟! البعض يتحدّث في انفعال عن أن الثورة لم تحقّق أهدافها بعدُ، ولم تقضِ على الفساد كله، ولم تحاكم أذناب النظام السابق كله.. والبعض الآخر يتحدّث عن ضرورة هدم كل شيء؛ لإعادة البناء بقواعد سليمة جديدة.. ولكن لا أحد يتحدّث عن تلك القواعد الجديدة.. ولا أحد يدري كيف يمكن القضاء على الفساد كله، ليس في مصر، ولكن في أي مكان في العالم، وأي مرحلة من التاريخ.. وما تصوّر الغاضبون لكيفية بناء دولة تمّ هدمها بالكامل؟! الواقع أن ما يقال في هذا الشأن هو ذروة في الفوضى وفي انعدام الرؤية الواقعية والمستقبلية.. فعمليا وعلميا من المستحيل القضاء على الفساد تماما من أي دولة، حتى لو حاكمت كل الفاسدين فيها وأعدمتهم عن بكرة أبيهم.. الأمر المنطقي الوحيد هو أن تكون هناك قوانين وآليات؛ لكشف الفساد ومكافحته ومحاسبته.. والحديث عن القوانين يقود بالتالي إلى الحديث عن السلطة التشريعية، المكوّنة من مجلسَي الشعب والشورى.. وهذا يقود بالتالي إلى الحديث عن وجود رئيس على قمة الدولة.. وهذا مثل أي دولة.. ووجود برلماني ورئاسي يعني النظام.. وكلمة النظام هي كلمة أكبر مما تتصوّرون.. النظام معناه وجود سلطات واضحة للدولة ومؤسسات قوية وقوانين تحمي الضعفاء، وتحدّ من انطلاق الأقوياء.. النظام يعني احترام إرادة الشعب.. وحقوقه.. ومستقبله.. النظام يعني أن يبدأ كل فرد بمعرفة واجباته.. وباحترام حقوق الغير.. النظام يعني هيبة الدولة.. وقوة القانون.. وعدالة القضاء.. ومساواة الجميع في الحقوق والواجبات.. النظام يعني أن يدرك الناس مكمن القوة الحقيقي؛ فالقوي ليس مَن يخيف الضعفاء ويرهبهم ويفرض إرادته عليهم.. القوي بحق هو مَن يحمي الضعفاء.. من يدافع عنهم.. من يمدّ لهم يد العون.. القوة الحقيقية هي أن تكون مفيدا للناس، ولست سيفا على رقاب الناس.. تعالوا الآن نحسبها.. أنحن كذلك؟! أما إننا نمر بمرحلة الفوضى؟! في مرحلة ما كان هناك من يتحدّث عن الفوضى الخلاقة؛ باعتبار أنها أحد وسائل انتقال الأمم، من حال إلى حال.. وربما كان هذا صحيحا، من الناحية النظرية، ولكن حتى الفوضى الخلاقة لها شروط وأبجديات.. الفوضى الخلاقة هي مرحلة انتقالية، تتمّ فيها غربلة المجتمع وإعادة تشكيل صفوفه، وتوزيع الأدوار فيه، وفقا لأيديولوجية واضحة وصورة مستقبلية معروفة.. فهل هذا ما نمرّ به؟! إن ما يحدث فعليا -منذ قيام الثورة- هو إفراغ لشحنة غضب هائلة، اختزنتها القلوب والنفوس طوال ستة عقود.. ثم أفرغتها كلها دفعة واحدة.. وبمنتهى العنف.. ولأن الغضب أعمى -كما تقول العبارات الأدبية وكما تصفه دوما- فقد تفجّر الغضب في العقول والقلوب، وتصاعد بخار حممه ليغشى العيون والأبصار، ويفرز هرمونات ضارة في الأمخاخ، فلم تعد الرؤية صالحة، ولم يعد هناك من يُفكّر أو يتدبّر أو يعقل.. صار هناك فقط غضب.. غضب.. غضب.. وبلا حدود.. ربما كانت الصدور مشحونة بذلك الغضب منذ زمن طويل، وربما كانت تحلم بإفراغه يوما.. ثم جاء هذا اليوم.. وأفرغنا الغضب.. وما زلنا نفرغ.. نفرغ.. ونفرغ.. ولكن إلى متى؟! الدولة لن تنصلح؛ لأننا نفرغ غضبنا.. لن تنصلح لأننا ثائرون.. ولا لأننا ننشد كمالا يستحيل حدوثه، ما دام هناك في الكون شيطان يوسوس للناس بالفساد.. الدولة لن تنصلح؛ لأننا نتصارع.. ولا لأننا نعشق أن نظل ثوارا.. هذه كلها عوامل هدم.. فأين ومتى وكيف يبدأ البناء؟! تعالوا نحسبها بهدوء.. دون هتافات.. أو انفعالات.. أو بطولات.. وحتما دون غضب.. كيف يمكن للثورة أن تصنع المستقبل؟! وكيف يمكن أن يصبح هذا المستقبل مشرقا؟! كيف؟! وإلى الذين يتبنّون نظرية أن نهدم كل شيء لكي نعيد البناء على أساس سليم، دعوني ألقي عليهم سؤالا ربما لم يطرحوه على أنفسهم.. ترى هل تتصوّرون أن كل القوى المحيطة بنا ستقف سلبية، تتابعنا ونحن نهدم الكيان كله، ثم تقف ساكنة صابرة حتى نعيد بناء الكيان ونصبح دولة قوية؛ لأنه من غير الأخلاقي أن تنقض علينا، بعد أن هدمنا كل شيء؟! هل تتوقّعون أن نصل إلى قمة الضعف ويتركنا العالم في حالنا، حتى نستعيد قوتنا وبأسنا؟! هل كل أعدائنا في قمة الشرف والنزاهة إلى هذا الحد؟! أم إنكم تتصوّرون أننا وحدنا في هذا العالم؟! تعالوا نحسبها ونسأل أنفسنا: من أكثر من يستفيد من الفوضى التي وقعنا فيها، والتي تقاتل حتى لا نخرج منها؟! نحن ومستقبلنا؟! أم أعداؤنا؟! مَن؟! احسبوها... وما زال للحديث بقية،،،،