كتب: السنوسي محمد السنوسي في الحديث الشريف: "لا يلدغ المؤمن من جُحر واحد مرتين"؛ ومعنى هذا أن من يلدغ من جحر واحد أكثر من مرتين فليس بمؤمن كامل الإيمان، ونحن ومع الأسف قد لُدغنا منذ قيام الثورة عشرات المرات من نفس الجحر.. فهل نحن حقّا ثوريون، أو مدركون لمعنى الثورة وأهدافها، والآمال المعلقة عليها، والتحديات التي توضع في طريقها؟! أما التحديات فهذا شيء طبيعي، فالحقوق من المعروف أنها تُنتزع ولا توهب، وإلا لما قامت الثورة من الأساس.. فهي قامت لتنتزع حق الحرية والكرامة والعدالة الإنسانية من يد نظام باطش مستبد غاشم فقد أي شرعية يمكن أن يستند إليها في البقاء والاستمرار في السلطة؛ فانتفض الشعب لينتزع حقوقه المنهوبة المسلوبة، إدراكا منه أنه إن انتظر حتى يمنّ عليه أحد بأية حقوق؛ فلن يحصل على أي شيء. ومن هنا فالتحديات أمر طبيعي؛ لأن أصحاب المصلحة في أن يبقى هذا النظام الفاسد سيجدون أنفسهم مضطرين للدفاع عنه؛ لأنه هو الذي يحمي مصالحهم وجشعهم وتصرفاتهم غير المشروعة. هذا عن التحديات.. فماذا عنا نحن؟! إذا كان من الطبيعي وجود تحديات ومؤامرات وخطط لإيقاف الثورة، والقضاء عليها قبل أن تستقر وتثبت أركانها؛ فيصبح من العيب، أو من السذاجة أن نقول عند حدوث كارثة: إن هناك مؤامرات وأطرافا خارجية تساعدها أصابع داخلية ضد الثورة؛ لأن هذا شيء طبيعي، واللي فاكر إن أذناب النظام القديم سيرفعون له القبعة، ويوسعون له الطريق ويقولون: اتفضل يا فندم اتسلم كرسي السلطة.. يبقى فاهم غلط. ولذلك فالأجدى والأنفع أن نبحث عن الوسائل الحقيقية الجادة لمواجهة تلك المؤامرات، لا أن نعلق ما يحدث على أعداء الثورة. ولكن مع الأسف -وهذا أيضا شيء طبيعي- التحديات التي تواجه الثورة من داخلها أكثر، وأشد خطرا من تلك التي تأتي من الخارج. بمعنى أن عدم وضوح الهدف للثوار وعدم وجود قواسم مشتركة بينهم بقدر كافٍ، ورغبة البعض في أن يفرض رأيه هو، والإصرار على مطالب بعينها حتى لو لم يكن لها مؤيدون، وقيام بعض الأطراف بتشويه رفقاء الثورة والكفاح لمجرد الاختلاف في الرأي أو لأن الرأي العام (الانتخابات) اختار فصيلا ولم يؤيد فصيلا آخر، والانقسام المبكر في صفوف الثوار مع أن هدم النظام القديم لم يتم بعد وتشكيل النظام الجديد ما زال في أولى مراحله.. كل ذلك يضع العراقيل أمام استكمال الثورة، ويشكّل من زاوية أخرى داعما للثورة المضادة دون أن يدري هؤلاء الثوار أنفسهم. يعني يصبح بعض الثوار "زي الدبة اللي قتلت صاحبها".. أرادت أن تحسن فأساءت، وقتلت من تزعم أنها تدافع عنه. هذه الخلفيات اتضحت بشكل كبير في أزمة بورسعيد، وقبلها مباشرة بعض القوى الثورية أصبحت لا ترى أي شيء صوابا إلا رأيها فقط، وإلا مطالبها فحسب حتى لو كانت ضد إرادة الجماهير، والنتيجة أن "أبناء الثورة" أصبحوا يشكلون أفضل بيئة ومناخ لكي تحقق الثورة المضادة أهدافها. وأصبحنا جميعا أمام مشكلة حقيقية: إذا وجهت نقدا لهذه القوى الثورية، ستجد الفضائيات ووسائل الإعلام توجه ضرباتها و"مدفعيتها الثقيلة" إليك بأنك تخون الثورة، وتتواطأ مع المجلس العسكري، أو في أحسن الأحوال، يقولون: إنك تستغل الأغلبية للاستبداد برأيك. حد يقول لي: هي إيه الديمقراطية إلا حكم الأغلبية؟! لأول مرة أعرف إن الديمقراطية هي حكم الأقلية. ده المفروض إن الأغلبية لو لم تنفذ رأيها؛ فإنها تعتبر مسئولة أمام من انتخبها؛ ليحاكمها بأنها خانت الأمانة والتفويض الذي أعطاه لها.. من هو في موضع الأقلية الآن عليه أن يجاهد ليصبح أغلبية في المرة القادمة، ولا يتحجج بأن الأمر ينبغي أن يكون توافقيّا.. لماذا الحديث عن "التوافق" فقط عندما يكونون في موقع الأقلية؟! مزايدات.. مزايدات خرج البعض -حتى من أعضاء مجلس الشعب- ليزايد على مجلس الشعب، ويطالب بتسليم السلطة فورا الآن.. طيب لمين يا محترم ومافيش واحد يتفق عليه اثنان في البلد، وكمان باقي شهور معدودة على التسليم الآمن للسلطة المنتخبة.. هذا ليس وقت البطولات الزائفة، وإنما الحلول العملية. والبعض الآخر يقول: شبعنا من تشكيل اللجان، لازم يصدروا قرارات؛ وكأن المفروض هو إصدار القرارات قبل التحقيق والتدقيق، ونسوا إن دي أول لجنة يشكلها مجلس الشعب المنتخب؛ لكن تقول إيه على المزايدين والذين ينافقون الرأي العام وينفخون في "كرة الغضب". أصبح نفاق الثوار أمرا راسخا؛ لدرجة أنه بعد الأحداث مباشرة ظهرت وجوه إعلامية كثيرة -طبعا في العدد وإلا فلا وزن لها- تتحدث عن أن من يهاجمون وزارة الداخلية لهم العذر لأنهم مجرحون، وعدد الشهداء كبير؛ وكأن الانتقام للشهداء يكون بسفك دماء جنود أبرياء لا حول لهم ولا قوة، ثم لما تبرأ رابطة الألتراس الأهلي ممن يهاجمون وزارة الداخلية، وأعلن أنه مشغول بتلقي العزاء، ظهر أحد الإعلاميين بكل بجاحة ليقول: ماحدش يسأل عن هوية المهاجمين للداخلية؛ لأنهم في النهاية من الشعب المصري ولهم مطالب.. يا سلاااااام!!! الأول، قالوا: ألتراس؛ علشان يسكتونا ويرهبونا بدم الشهداء، ثم لما افتضحوا، قالوا: هم من الشعب المصري؛ وكأن المواطن المصري له الحصانة في اختراقه للقانون، ومهاجمة مؤسسات الدولة، ثم هل بهذا يكون تطهير الداخلية وإصلاحها، أم هدمها والرجوع إلى عصر ما قبل القانون؟! وماذا لو قُتل مواطن وهو يهاجم الداخلية، هل سيصير من "الشهداء"، وياخد معاش شهيد من جيوبنا؟!! اللي بيحب الثورة يجب أن يواجه الثوار بأخطائهم، ولا يخشى أن يقال عنه إنه متواطئ مع المجلس العسكري، أنا بحب المجلس العسكري، وأطالبه بالرضوخ لإرادة الشعب المصري، والتفرغ لمهمته المقدسة، وتسليم السلطة للمدنيين؛ ولكن بالقانون والعقل، والضغط السلمي مش بالفوضى وهدم البلد. مطلوب تفسير أنا مثل كثيرون لي ملاحظات على المجلس العسكري، وأطالبه بأن يثبت بجدية أنه مع الثورة، وأنه لا يقف على مسافة واحدة من الجميع، وأقصد بالجميع: الثورة ونظام مبارك؟! لأنه فعلا توجد أشياء كثيرة محتاجة لتفسير، والسكوت عليها يجعل المجلس العسكري موضع شبهة واتهام. لماذا لم يعلن المجلس حتى الآن نتائج التحقيقات في الملفات المفتوحة منذ قيام الثورة؛ خاصة التمويل الأجنبي، وحقيقة العلاقة مع أمريكا؟ لماذا لم يحوّل للتحقيق من طالب صراحة من الاشتراكيين الثورين زي سامح نجيب بالعمل على انقسام الجيش، وتفكيك الدولة، وإشاعة الإضرابات والاحتجاجات؟ هل هو يتركهم لأنهم يحققون مناخا من الفوضى التي تحقق مبررا لاستمرار المجلس في السلطة؟ لو أن سامح نجيب تحدث قبل سقوط النظام ولو بكلمة واحدة من هذا العبث -الذي قاله في ندوة مسجلة ومنشورة على اليوتيوب، تعرضت لها في مقال سابق بعنوان: "الذين آمنوا بالفوضى وكفروا بمصر"- ماكانش شاف الشمس زي ما بيقولوا؟! فلماذا يسكت المجلس العسكري عن هذا الكلام "المعلن" الذي يمثل فعلا خطرا على الدولة، والذي هو مُجرَّم قانونيا؟! طبعا البعض هيقول أنا بأحرض على الثوار. وهذا بالإضافة إلى السكوت المريب عن الأصابع الواضحة لأعضاء الحزب الوطني الذين يعبثون بأمن مصر في أحداث محمد محمود وغيرها، واستغلوا أطفال الشوارع في حرق المجمع العلمي، وهناك عشرات الدلائل والتقارير عن تورطهم، ومع ذلك لم يتم استدعاء أي واحد منهم للتحقيق. سكوت المجلس العسكري عما سماه هو "الطرف الثالث" يجعلنا نصدق من يقول إن إشاعة الفوضى في البلد، سواء بأيدي بعض الثوار أو بأعضاء الحزب الوطني، هو على كيف المجلس العسكري؛ وإلا لماذا لم يحولهم للتحقيق ويتحفظ عليهم؟! لماذا يُصر المجلس العسكري على منازعة مجلس الشعب المنتخب في اختصاصاته ويتعدى عليها، ويصدر قانون تطوير الأزهر وقانون انتخاب رئيس الجمهورية قبل أسبوع تقريبا من انعقاد مجلس الشعب؛ مع أنه ليست هناك ضرورة لاستعجال إصدار لهذين القانونين، إلا أن يكون المراد هو تمرير شيء من وراء ضهر المجلس المنتخب؟! أنا أنافق سؤال صعب أن تجد نفسك مطالبا بالإجابة عمن تنافق: الثورة أم المجلس العسكري؟! وإذا كان لي من إجابة: فأنا أنافق "الشعب" فهو صاحب الكلمة العليا في هذا البلد.. أو بالأدق: لا أحب النفاق أصلا؛ لأن الحق أحق أن يتبع، والحق غني عن النفاق، والنفاق لم يكن أبدا صفة طيبة يتحلى بها الإنسان السوي. من أراد ألا تتكرر مأساة بورسعيد، فعليه أن يضع يده في يد الشعب.