يحكي الذين ذهبوا أو زاروا أو تردّدوا على مبنى ماسبيرو في الأيام الماضية، أنهم لاحظوا كمّا هائلا من التحصينات والمدرعات العسكرية والأسلاك الشائكة والجنود المدججين بالسلاح في كل أدوار المبنى، وحتى في المصعد. إن المجلس العسكري يُدرك جيّدا أن مَن يملك ماسبيرو هو من يملك حكم الدولة.. ماسبيرو أهم من وزارة الداخلية ومجلسَي الشعب والشورى، وأهم من أي منشأة أخرى. لطالما لعب ماسبيرو دورا محوريا في توجيه الجماهير وتشكيل وعيها وتربيتها على القيم التي تريدها لها الدولة، بدءا من تليفزيون 1960 ذي الميول الاشتراكية الذي أنشأه عبد الناصر، وحتى تليفزيون 2011 الذي حذّر الشعب من أن الأقباط يقتلون الجيش، ودعاه للنزول لحماية الجيش من القتل. تنبَّه المجلس العسكري إلى أهمية ماسبيرو مبكرا، وتدلنا على هذا الواقعة التي نشرت على إثر تسريب فيديو كواليس إذاعة شريط تنحي مبارك، والألم المرتسم على وجوه العاملين في ماسبيرو على رحيل مولاهم، فقد كشف حازم العتر -مصوّر الشريط- أن عبد اللطيف المناوي -رئيس قطاع الأخبار- رفض إذاعة خبر أتاه من أنس الفقي وزير الإعلام، والخبر هو إقالة المشير طنطاوي من منصبه، وذلك قبل إذاعة خطاب التنحي بأربعة أيام، واتصل المناوي باللواء إسماعيل عتمان ليُخبره بالواقعة، ومن تلك اللحظة صار هناك اتصال مباشر بين الجيش وماسبيرو، لينقلب الجيش على مبارك بعد ذلك. نلاحظ هنا أن المشير طنطاوي لم تتم إقالته من منصبه، فقط لأن الخبر لم يذَع؛ فإذا أذيع الخبر لكان المشير قد أقيل؛ أي أن الحقائق هي فقط ما يُذاع عَبْر التليفزيون، فإذا لم تذَع لم تكن موجودة. هذه النقطة تذكّرنا أيضا بأغرب انقلاب تم في العالم العربي، وربما كان أغرب انقلاب في التاريخ، وهو الانقلاب الذي قام به أمير قطر الحالي على والده حاكم قطر السابق؛ إذ استغلّ الشيخ حمد بن خليفة وجود والده خارج البلاد؛ فقطع إرسال تليفزيون قطر لإذاعة البيان رقم واحد، وهو مبايعة مشايخ الدولة للأمير حمد حاكما جديدا للبلاد. وعَرَض التليفزيون مَشاهد للشيخ حمد وهو يجلس متجاذبا أطراف الحديث مع المشايخ ويُسلِّم عليهم، وذلك دون إذاعة صوت، وكان القصْر قد وجّه دعوة للمشايخ وقام التليفزيون بتصويرهم وهم يسلّمون على الأمير وهم لا يدرون ماذا يحدث؛ أي أن الانقلاب حدث لأن التليفزيون أذاع أنه حدث، وما دام الشعب قد عرف الخبر فلا يجرؤ أحد هنا من المشايخ فيعترض ويقول إنه لم يحدث، وقد سُمِّي هذا الانقلاب بعد هذا ب"الانقلاب التليفزيوني". كل هذا تنبّأ به الكاتب العبقري جورج أورويل في روايته 1984 الصادرة عام 1948؛ حيث العالم المستقبلي الذي يتحكّم فيه أُولي الأمر في خلق الله من المحكومين عن طريق شاشات البث، هناك شاشة بث في كل مكان في البيت وفي أماكن العمل والشوارع، تبثّ الأخبار التي يريدك الأخ الأكبر أن تعرفها؛ حيث الصحيح فقط هو ما يبثّه التليفزيون، حتى لو قال التليفزيون جُملا مثل: "الحرب هي السلام"، "الحرية هي العبودية"، "الجهل هو القوة". ألا تُذكّرنا هذه العبارات بعبارات أخرى نسمعها في التليفزيون الآن مثل: "نحن لم نطلق رصاصة واحدة"، "لا يوجد غاز مسيّل للدموع"، "أيادٍ خفية تعبث بمقدرات الوطن"، "هناك طرف ثالث"، "إنهم ينفّذون أجندات خارجية"...؟ مَن يمتلك التليفزيون يمتلك الدولة.. مَن اخترع التليفزيون كان يهدف إلى صنع جهاز يقول ما حدث، لكن اليوم أصبح ما يقوله التليفزيون يتحوّل إلى الحدث نفسه.