أُبلّع مرارتي أنحني حتى تمرَّ العاصفة، لكن العاصفة طالت ويبدو لي أنها إلي غير انجلاء. إصرارٌ عنيدٌ من جانبه علي إهانتي. تُناط بي أصعبُ المهام وأحقرُها وأنا معتصمٌ بالصبر.. الدميم؛ لا أبدي امتعاضا ولا أظهر استياء، وإنما نعم، حاضر، تمام يا أفندم! منذ قدمت، مُوَزَّعا عن مركز التدريب، إلي وحدة حراسة هذا القصر الرئاسي، الرازح بأحد أرقي الأحياء القاهرية؛ لتأدية (الخدمة العسكرية الإجبارية، وأنا شغله الشاغل، تسليته الليلية. حال، بداية، دون تحقيق رغبتي في أن ألحق بفريق تنسيق حديقة القصر، وهو ما يبهجني كخرّيج زراعة. انتهي بي التطواف أخيرا علي كافة الوظائف إلي هذا الجردل المملوء عن آخره بسائل طحيني اللون. ونسبة إلي جردلي صار فخامته، ومِنْ ورائه كلُ مَنْ يتزلّفه علي قفاي، ينادونني (جردل الطحينة). في حوالي الثالثة صباحا أحمل جردلي وأرتحل. أدور حول الأسوار متلصصا علي كلمة هنا أو رسمة هناك فأمحها؛أبيّضها. من الممكن أن يكون ذلك عاديا جدا لو أرجئ للصباح وناوبني أحد الزملاء في إنجازه. لا بد أن أؤديه، وبمفردي، فجرًا؛حتى لا أجرح إحساس السادة سكان الحي من علية القوم وأخدش كبرياءهم الجليل بمنظري الرثّ الحقير. أي ُّعقلٍ معجون بخلايا الفهامة والنباهة تفتق عن هذه الأفكار؟! إنه ببساطة عقل النقيب المبارك، جمال، الذي لا يني يبتكر ويتفنن، و(اشربْ يا مَعَلّم) وشربت حتى كرعت. وطنت نفسي علي التأقلم مع هذا الوضع الذي لا فكاك منه. صارت جولة الفجر إطلالتي علي حياة أخري للمنطقة. أتسكع متحررا من الخطوة العسكرية. فقط ليلة السبت أعمل بهمّة. يجد أبناء الحي الراقي بعد ظهر كل جمعة، حيث يقام معرض فني مفتوح، وتحت حراسة الشرطة، طريقهم سالكا إلي الأسوار، يرسمون ويكتبون بالإسبراي، يعبّرون عن أنفسهم. تستعصي طلاسم كتابتهم الأجنبية علي فهمي. أزيلها وكلي أمل أن يعاود الفلاح الفصيح، هكذا توقيعه، إلي مشاغبتي برسومه الرائقة وتعليقاته اللاذعة. فليعاود ولسوف تحيّيه فرشاتي بضربات خفيفة ناعمة (ولا أحسنه فان غوخ. ذاتَ صباح شتوي دافئ، تم استدعائي علي وجه السرعة للمثول بين يدي ّ قضائي وقدري، فسارعت إلي تلبية نداء الواجب، هاتفا من أعماقي: اللطف اللطف! المهمة محددة؛ ستقلني سيارة الوحدة مع عِدّة العمل لدهان الجراج والسور الخارجي لفيلا خطيبة النقيب جمال. بمجرد وصولي شرعت في تجهيز أدوات العمل. تجرّأت، فيما يبدو، وسألت أهل البيت إن كان بالإمكان أن يتكرموا عليّ بقميص قديم أرتديه حتى لا تتلوث البزة العسكرية. فجأة، انشقّ النهار عن حورية رائعة الحسن، خطيبة النقيب جمال، ناولتني (ترينج سوت) وسألتْ بمرح إن كانت تصلح؛ بحثتْ في دولاب ملابسها فلم تجد إلا هذه. بدّلتُ ملابسي وأنا أدرك، عمليا، معني أن تكون في (نص هدومك) أنجزت عملي علي أمثل وجه، وعُدْتُ أدراجي إلي الموقع. فور علمه بخبر الترينج سوت، ولا أعرف كيف، استبد بجمال غضبٌ عارم، وغيرة عصفت بعقله. أخذ يجدّ في البحث عن الترينج سوت، وأمام إصراري علي تركها هناك، ولربما شُيّعت إلي صندوق (الزبالة) فتّش القصر بحثا عن عرضه السليب. يا للمنطق الذكوري المتعجرف، وَيْكأني ضُبطت معها في وضع مخل، مع الترينج سوت! أعترف أنني أذعت اسمها للجميع وصرنا ننادي (جيمي) سرا (كيمي) أعترف، وعلي استعداد للمحاكمة بتسريب أسرار عسكرية خطيرة. الكلُّ يذهب ويجيء، وأنا، المكدَّر الوحيد، عالق في فخ برج المراقبة. ألوك حنقي في ضجر، أبلعه علي مضض، أهضمه مع عُسر. أنّي لي أن أبوله؟! محصوراً ألمحه يتجهزّ للمغادرة. تتلاقي العيون. يتلكأ علي غير عادته؛ إذ يخرج مشطوطا لا يلوي علي شيء. يرمقني بنظرة تنزلني في عينيه من برجي "كجلمود صخرٍ حطه السيلُ من علٍ". يشعل سيجارة (دافي دوف) تصلني واحدة محمولة علي قذيفة من طرف سبابته: - يااا. . إنت خِرّيج أيه، عايزيين ننطّقك؟ - زراعة، قسم بستنة. -جنايني يعني؟ -عليك نور، تمام زىّ ما.. معاليك.. غفير بتلت نجوم. يطرق قليلا مفكرا، ثم يبتعد مشوّحا ما معناه: موعدكم الصبح، أليس الصبح بقريب؟ يبتعد، تلمع النجوم النحاسية فوق كتفيه مخلفة حضورا ثقيلا أحاول أن أطرده عن نفسي. أغادر برج المراقبة. أفترع سور القصر مدلّيا ساقيَّ المتعبتين من طول الوقوف. أشعل سيجارته، أقذفها علي طول ذراعي إلي نهر الشارع، وأرقبها تخبو وتتقدّ. تهبُّ نسمة هواء باردة منعشة. أزمُّ طوق البِزّة العسكرية علي ما بان تحته من الترينج سوت. أتنفس الصعداء، تلتقط أنفي أولَ الطلع من زهور حديقة القصر، والتي تؤذن بقدوم الربيع؛ الربييع.
محمد بسيوني الشرنوبي التعليق أرحب بمحمد في الورشة، فهو كاتب يمتلك معظم المقومات: الحساسية، وعمق الفهم للبشر، والقدرة على السرد، والصحة اللغوية (فيما عدا الخطأ في بعض الكلمات والعبارات) مع حس ساخر محبب. القصة جيدة ولا تحتاج إلا لبعض الإحكام بحذف بعض الكلمات الزائدة مثل (الربيع) الأخيرة التي تزيد المعنى الرمزي أكثر من اللازم. د. سيد البحراوي أستاذ الأدب العربي الحديث بكلية الآداب، جامعة القاهرة